الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
وهذه الأمور الثلاثة متقاربة في المعنى، والفرق بينها -والله تعالى أعلم- أن المودة هي خالص المحبة، فهي إصغاء القلب وميله إلى المحبوب، فالمحبة على درجات، ومن هذه الدرجات المودة، "في توادهم وتراحمهم" وأما الرحمة فهي معروفة تكون بالقلب وتظهر آثارها، بمعنى أن الرحمة الصفة المعروفة عند المخلوقين تعني لوناً من الشفقة على المرحوم والتوجع له، ومحبة الخير له، والتأذي بما يحصل له من الضر، وما إلى ذلك مما يمكن أن يقرب معناها بالنسبة إلينا، وأما التعاطف فإن العطف يدل على شفقة على المعطوف عليه، وبعض أهل العلم يفرق بين هذه الأمور الثلاثة يقولون: إن التواد هو ما يحصل به التقرب إلى الشخص بهدية ونحوها، وأما الرحمة فهي معروفة، يفسرونها بمعناها المعروف، وأما العطف فهو بمعنى العون والتضافر من الانعطاف، هكذا فسرها بعضهم، وما ذكرت أظنه أقرب، والله تعالى أعلم.
في توادهم أي المحبة الموجودة المتمكنة في القلوب فيما بين المسلمين، فالمسلم يحب أخاه، والنبي ﷺ قد بين هذا المعنى بياناً شافياً فقال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[2]، وبين النبي ﷺ أيضاً أن الإيمان متوقف على المحبة، فقال: لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم[3]، فبين النبي ﷺ في هذا الحديث الأسباب الجالبة للمحبة، بقوله: أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، فالمقصود أن من مقاصد الشريعة وجود المحبة بين المسلمين، أما التباغض وتنافر القلوب فهذا خلاف مقصود الشارع، فإذا كان ذلك في البيت الواحد بين الإخوان، أو بين الوالد وولده والزوج وزوجه، والقريب وقريبه فلا شك أن هذا جرم عظيم، ومخالفة كبيرة، وأن الله لا يرضى ذلك من العبد، وكلما قويت القرابة وجب أن تكون المحبة أقرب إذا وجد الإيمان، فيحبه لقرابته ويحبه لإيمانه، والعاقل المؤمن لو أنه جعل له ميزاناً وهو أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه دائماً، ويضع نفسه موضعهم في كل شيء، إذا خاطبهم ينبغي أن يضع نفسه في مقامهم، وإذا عاتبهم يضع نفسه مكانهم، وإذا جاءوا لحاجة وكان بيده سلطة أو نحو ذلك، فجاءوا إليه لقضاء حوائجهم ينبغي أن يضع نفسه مكانهم، ، فالمؤمنون يتوادون ويتراحمون ولم تنزع الرحمة من قلوبهم، إذا رأى بأخيه ضراً من فقر أو حاجة أو وقع في مشكلة ما فلا يشمت به، وإنما ينبغي أن يرحمه، ويتألم لما وقع به، ويجتهد في دفع ذلك عنه بقدر المستطاع، وهكذا التعاطف بأن يعطف بعضهم على بعض.
واعلم أن العطف لا يأتي من أصحاب القلوب القاسية، وكذلك الرحمة والمودة، فإذا كان الإنسان قاسي القلب كأنما نزعت الرحمة من قلبه، لا يبالي بمشاعر الآخرين، وإنما همه الأكبر وهدفه الأعظم أن يستريح فهذا لا شك أنه مخطئ، مع أننا نقول: إنه لن يحصّل الراحة، لأن طريق السعادة والراحة إنما يكون بالإحسان مع الخالق، وبالإحسان إلى المخلوقين، وهذا شيء معروف مشاهد، وكلما ازداد الإنسان إحساناً إلى الناس واجتهد في مساعدتهم، ولو بالكلمة الطيبة، أو بحل مشكلة من مشكلاتهم، أو بالوقوف معهم في محنتهم فسيجد الراحة والسعادة في قلبه، نحن الذين نجلب الشقاء والهم والغم لأنفسنا حينما نضيق بالآخرين، فلا يظن أحد بحال من الأحوال أنه يمكن أن يحصّل الراحة بالأنانية، فالزوجة لا يمكن أن تعيش مرتاحة إذا كانت تريد أن تعيش لنفسها مع إهمال زوجها، ومشاعره، ومتطلباته، وكذلك الولد حينما يكون في البيت، يريد أن يحقق له كل شيء، وهو بمنأى عن الآخرين، ومع أنه لا يصل أحداً، ولا يحسن إليه، ولا يتكلم بكلام طيب مع إخوانه، فهذا يعيش بائساً منقبض القلب، وكذلك الزوج حينما يريد أن يستمتع وحده دون غيره، فليعلم أنه لن يعيش في سعادة وهناء، فمن أراد السعادة لنفسه فليقدم السعادة والراحة للآخرين، وليحسن إليهم، وسيجد أثر ذلك ينعكس عليه في كل شيء، حتى في المجلس، وسِّعْ لأحد في المجلس وقل له: اجلس وابتسم له، وإذا كان معك طيب أخرجه وطيبه منه، وانظر أثر ذلك في نفسك، لو هناك إنسان في سيارته يريد أن يجتاز في الطريق تضيق نفوسنا كثيراً ونزيد في السرعة من أجل أن لا يعبر، هذا التصرف من شأنه أن تضيق النفوس، ولربما يستحي الإنسان من هذا الفعل، ومن سلوكه وتصرفاته، لكن أقول لك: جرب توقف وابتسم وقل له: تفضل، ولو ابتسامة مصطنعة في أول الأمر، ولكنها مع الأيام ستكون طبيعية -إن شاء الله.
فعامل الناس كما تحب أن تُعامَل، وبعض الناس إذا كانت الحاجة له ذم الناس ولربما شتمهم من أجل أنهم لم يحسنوا إليه هذا الإحسان الذي كان ينتظره منهم، أقول: الإحسان باب واسع في السعادة، والانشراح، وكثير من مفردات هذا الباب بالمجان لا تتطلب منك ثمناً.
فتعهد عامل النظافة الذي في حيكم، وأعطه ما تيسر لك من هدايا، وانظر أثر ذلك عليك حينما تدخل في بيتك، فالانشراح لن يفارق قلبك، والراحة تتنزل عليك، فينبغي أن نكون كما قال النبي ﷺ أهل تواد وتراحم وتعاطف.
انظر كيف مثلهم النبي ﷺ بالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر، ألا تلاحظ كيف التداعي؟ إذا انجرح في الجسد عضو تبدأ الحرارة ترتفع، ويظهر آثار المرض في الجسد كله، وتبدأ الغدد اللمفاوية تتضخم في بعض الأجزاء من أجل أن تحاصر هذه الجراثيم، كل هذا من أجل جسد واحد.
وجاء في رواية في صحيح مسلم في هذا الحديث أن النبي ﷺ قال: المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه[4]، وهكذا ينبغي للمسلم لما يسمع عن جاره أو عن قريبه أو عن أحد من إخوانه المسلمين أنه في بلوى أن يذهب إليه فيواسيه ويقدم له ما يحتاج إليه، ويخفف عليه مصيبته التي نزلت عليه، وأما القسوة والإعراض والتناسي والتجاهل للآخرين فهذا ليس من صفات المسلمين، وكلما خف الإيمان في قلوبنا وطغت المادية كلما ضعفت هذه المشاعر في المجتمع، ولذلك انظر المجتمعات الغربية الأب مع أبيه والبنت مع أمها، ولربما إن كان بارًّا لا يعرفه إلا في الأعياد والمناسبات فيرسل له بطاقة تهنئة، لا يعرفون بعضهم بعضاً، فالجار عندهم لو أنه أعطى جاره طبقاً من طعام أو هدية بدأ يفكر ويحلل ماذا يريد؟ وماذا يقصد بفعله هذا؟، وبعد ذلك ينتظر ما هي الخطوة التالية، لأنهم لا يعطون شيئاً إلا وينتظرون من ورائه شيئاً آخر، أما المواساة فهي غير موجودة عندهم أصلاً، بل يموت الإنسان بجوارهم ولا يعرفون عنه شيئاً، فيبقى جيفة أياماً ولربما أسابيع، إلى أن يجدوا رائحته، فكلما قوي الإيمان قوي الإحساس، وإذا ضعف الإيمان ضعف هذا الشعور والإحساس.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 1999)، برقم: (2586)، والبخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، (8/ 10) برقم: (6011)، بلفظ: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 14)، رقم: (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (1/ 67)، رقم: (45).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (1/ 74) برقم: (54).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 2000) برقم: (67).