الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فذكرنا حديثين فيما يتصل بالرحمة بالمسلمين والشفقة عليهم.
الأول: حديث أبي هريرة قال: قبّل رسول الله ﷺ الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم[1] متفق عليه.
والحديث الثاني: هو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله ﷺ فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله ﷺ: وَأملكُ إن كان الله نزع منكم الرحمة؟، وقال ابن نمير: من قلبك الرحمة[2].
وذكر الإمام النووي -رحمه الله- بعده حديثاً يرتبط به وهو:
وقد تكلمت على هذا المعنى، وقلنا: إن الجزاء من جنس العمل، وإن النبي ﷺ لما ذرفت عيناه حينما حضر ابن ابنته ونفسه تفيض، فسئل عن هذا قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[4].
وقوله ﷺ: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف تبينه الأحاديث الأخرى التي وردت في صفة صلاته ﷺ، وقد قال النبي ﷺ: صلوا كما رأيتموني أصلي[6]، فأحسن ما يفسر به هذا الحديث هو هديه ﷺ في صلاته، فكيف كان يصلي؟، يفهم بذلك قوله ﷺ: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، كثير من الناس يظن أن معنى هذا الحديث هو أن يؤتى بالصلاة كيفما كانت من غير أن يراعى في ذلك هدي النبي ﷺ وسنته وعمله الغالب الذي كان يعمله.
ثبت عن النبي ﷺ أنه قرأ الأعراف في المغرب، وثبت عنه ﷺ أنه قرأ سورة الطور في صلاة المغرب، وكان ﷺ يقرأ في صلاة الصبح -في صلاة الفجر- ما بين الستين إلى المائة، وحينما يذكر هذا فإنه يقاس بأوساط الآيات، بمعنى أنها ليست الآيات الطويلة، وليست بالآيات القصيرة، ما بين الستين إلى المائة في صلاة الفجر، وكان النبي ﷺ تقام صلاة الظهر فيشرع في الركعة الأولى يكبر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، وكانت البقيع بعيدة في ذلك الوقت، لأن بين المسجد وبين البقيع كان يوجد نخيل، ويوجد بيوت، ولربما أسواق، يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله، ويتوضأ ثم يدرك النبي ﷺ في الركعة الأولى في صلاة الظهر، يذهب بعدما تقام إلى البقيع ويرجع إلى بيته، ويتوضأ ثم يأتي للنبي ﷺ وهو في الركعة الأولى، واليوم يخرج الإنسان من بيته والمسجد بجوار البيت في صلاة الظهر، وإذا الإمام في الركعة الثالثة أو الأخيرة، ما تدري هل قرأ الفاتحة أو لا، إلا من رحم الله .
فأين هذا من هدي النبي ﷺ؟!، فكثير من الناس يظنون أن المقصود بهذه الأحاديث هو أن يصلي الإنسان على قاعدة أرحنا منها، وليس أرحنا بها، وتعد الأنفاس والدقائق، ويبدأ الإنسان إذا قرأ الإمام في صلاة الظهر بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] كأنه على جمر الغَضَا، فكيف لو قرأ كما كان النبي ﷺ يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الظهر بنحو ثلاثين آية، والركعة الثانية على النصف من الركعة الأولى؟!، فهذا هديه ﷺ، مع أنه قرأ ﷺ في صلاة الفجر في سفر إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] في الركعة الأولى، وأعادها في الركعة الثانية، فكان يراعى أحوال الناس، أحياناً يكون الناس في سفر ومتعبون، أو يصلي إنسان في المطار، وبعضهم يريدون أن يفتحوا محلاتهم، فلا يقرأ بهم بسورة الأعراف إلا إن كان مع قوم معينين لا يرِد عليهم غيرهم، وهم يرتضون هذا، فيقرأ نادراً بمثل هذا، النبي ﷺ ما كان يقرأ هذا دائماً.
وأما الهدي الغالب للنبي ﷺ فمثلاً في الفجر طوال المفصل مثل ق، والحجرات.
فهذا كله يُجمع مع قوله ﷺ لمعاذ: يا معاذ، أفتان أنت؟[7]، لمّا صلى بالرجل ثم أطال عليه، ثم انفرد الرجل وصلى وحده.
فقول النبي ﷺ: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف اختلف العلماء -رحمهم الله- في ضابط هذا التخفيف:
فذهب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إلى أن ذلك يرتبط بحديث: أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفهم[8].
ومن أهل العلم من رأى أن هذا يفسر بهديه ﷺ وعمله الذي كان يعمله ويصليه، فصلاته كانت إلى تخفيف.
ففي قوله: فإن فيهم الفاء هنا تدل على التعليل، يعني: كأنه يقول: لأن فيهم الضعيف والسقيم والكبير،، الضعيف يعني: الضعيف في خلقته، ليس مريضاً ولا مجهدًا، لأن هناك أناسًا الله خلقهم أقوياء، وهناك أناس خلقهم ضعفاء.
والسقيم هو المريض.
والكبير يعني: الإنسان الذي قد بلغ من السن مبلغاً يضعف معه عن القيام بأعباء العبادة على الوجه المطلوب.
وذا الحاجة أي: إنسان له أمر يشغله، يريد أن ينجزه، فهو يريد أن ينتهي من الصلاة، فلا يطول عليه تطويلاً يشق عليه.
وقوله: وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء، لأنه ليس هناك من يرقبه وينتظر فراغه من الصلاة، ولهذا فإن النبي ﷺ كبر وقرأ في الركعة الأولى البقرة والنساء وآل عمران، كل ذلك في ركعة واحدة، وقرأها بهذا الترتيب، يعني: ما يقرب من خمسة أجزاء ونصف تقريبًا.
الإمام أحمد سأله بعض أصحابه وكان يصلي بالناس صلاة الليل، فقال: إن وراءك قومًا من الضعفاء، فاقرأ فيهم بعشر آيات، يعني: في الركعة، هذه عشر آيات عند الإمام أحمد، فينبغي للإمام أن يراعي ظروف الناس.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، (8/ 7)، برقم: (5996) ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، (4/ 1808)، برقم: (2318).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، (4/ 1808)، برقم: (2317).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله -تبارك وتعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [الإسراء: 110]، (9/ 115)، برقم: (7376)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، (4/ 1809)، برقم: (2319)، واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله -تبارك وتعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [الإسراء: 110]، (9/ 115)، برقم: (7377)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، (2/ 635)، برقم: (923).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، (1/142)، برقم: (703)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (1/341)، برقم: (467)، بلفظ: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن في الناس الضعيف، والسقيم، وذا الحاجة.
- أخرجه البخاري، كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، (9/ 87)، برقم: (7246).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، (8/ 27)، برقم: (6106)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، (1/ 339).
- أخرجه أبو داود (1/ 399)، برقم: (532)، وصححه الألباني، في الجامع الصغير وزياداته (1/ 311)، برقم: (661).