الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
الشاهد من هذا الحديث ظاهر، وهو أن النبي ﷺ كان يراعي قلب هذه الأم التي يشتغل قلبها عند بكاء صبيها، فيوجز في صلاته ﷺ.
وفي قوله: إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها فيه بيان لمعنى ذكرناه سابقاً، وهو أن النبي ﷺ كانت صلاته إلى تخفيف ومع ذلك كان يقرأ من طوال المفصل في صلاة الصبح، ولربما قرأ في المغرب سورة الأعراف أو الطور أو نحو ذلك.
وقوله: فأسمع بكاء الصبي، يدل على أنهم كانوا يأتون بالصبيان معهم إلى المساجد، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الإنسان حينما يكون في بطن أمه يكون جنيناً، ثم بعد ذلك يقال له: رضيع منذ أن يولد إلى أن يفطم، ثم بعد ذلك يكون صبياً من الفطام إلى التمييز، ثم بعد ذلك يقال له: غلام من بعد التمييز، إلى آخر ما ذكروا، وليس هذا محل اتفاق بين أهل العلم، بل منهم من يذكر غير هذا.
فكانوا يأتون بالصبيان معهم إلى المسجد، وهكذا الصبيّة كانوا يأتون بها، ويدل على ذلك أحاديث منها: "أن رسول الله ﷺ كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله ﷺ، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس: فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها"[2]، وهذا لا إشكال فيه.
وكذلك أيضاً ثبت عن النبي ﷺ فيما يرويه عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله ﷺ في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله ﷺ فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته[3].
ومنها أيضاً: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: خطبنا رسول الله ﷺ، فأقبل الحسن والحسين -رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال: صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة [التغابن: 15]، رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في الخطبة[4].
في زمننا هذا لو يقطع الخطيب الخطبة وينزل ليأخذ طفله الصغير ويحمله على المنبر ماذا سيقول الناس عنه؟!.
فهذه أخلاق النبي ﷺ ولطفه، فلنتأسَّ به في أقواله وأفعاله.
وأما الحديث جنبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم[5]، فلا أصل له، لأن بعضهم جعله كالعصا يتكئ عليه إذا رأى صبياً في المسجد، فلا بأس أن يأتي الصبيان إلى المساجد ليروا المصلين، وليألفوا هذا المنظر، بشرط ألا يعبثوا ويشغلوا المصلين.
وقوله: فأتجوز في صلاتي، يتجوز بمعنى أنه يختصر، وقد جاء ما يوضح هذا في رواية عند مسلم عن أنس ، قال: كان رسول الله ﷺ يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة[6].
وقوله ﷺ: كراهية أن أشق على أمه يدل على رحمته ﷺ وشفقته، وأنه لا يريد أن ينشغل قلب هذه الأم على طفلها، وكذلك مراعاة أحوال الناس.
فالإمام إذا رأى بالناس تعباً وإرهاقاً ينبغي أن يوجز في القراءة بأن يقرأ من قصار السور مثلاً، ويوجز في الركوع والسجود، إذا علم أن بعض من يصلي خلفه متعب أو نحو ذلك.
وهكذا أيضاً ينبغي مراعاة المأمومين في أمور أخرى مثل إذا شعر الإمام بأن أحداً من هؤلاء الناس قد دخل وهو راكع مثلاً فإنه يتريث قليلاً من أجل أن يدرك هؤلاء الناس الركوع، ولا يكون حاله كالذي لا يبالي بهم.
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، (1/ 143)، برقم: (707).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، (1/ 109)، برقم: (516)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، (1/ 385)، برقم: (543).
- أخرجه النسائي في سننه، كتاب التطبيق، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة (2/ 229)، برقم: (1141).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، (1/ 290)، برقم: (1109)، والنسائي، كتاب صلاة العيدين، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، (3/ 192)، برقم: (1585)، وابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس الأحمر للرجال، (2/ 1190)، برقم: (3600)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 702)، برقم: (1451).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، (1/ 247)، برقم: (750)، وضعفه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (ص: 390)، برقم: (2636).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (1/ 342)، برقم: (470).