إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا الذكر الذي سبق ذكر جملة من المرغبات فيه، ذكرنا جملة من فوائده وثمراته مما يحفز النفوس ويدفعها ويدعوها إلى الإقبال عليه، والاشتغال به، وترك التشاغل عنه بأي سبب كان، هذا الذكر ما هو؟ ما المراد به؟ على أي شيء ينطبق؟ وبأي شيء يتحقق؟ وما هي الصور والأنواع والفروع الداخلة تحته؟
هذا لا بدّ من تجليته من أجل أن تقبل النفوس على مجالس الذكر بكل صورها وأشكالها، وألا يضيق التصور والنظر فيتوهم أن ذلك يختص ببعض فروعه، أو أنواعه، وعبارات أهل العلم حينما نطالع في كتب التفسير، أو في كتب الشروح، أو في تلك الكتب التي تذكر المعاني العرفية الاصطلاحية أو الشرعية فإننا نجد العبارات التي يعبرون بها عن الذكر إنما هي بحسب متعلقه، إذ أن الذكر مصدر، وهذا تارة يراد به معنى المصدر بمعنى أن الذكر تارة يراد به العملية، تقول: هذا مجلس ذكر، يعني يذكر فيه المعبود بصرف النظر عما يقال، بصرف النظر عن العبارات، عن المادة التي تجري على الألسن، بصرف النظر عن الجمل التي يقولها هؤلاء، الذكر بمعنى العملية التي تجري على اللسان، هذا يقال له: ذكر مجالس الذكر، يعني التي يقال فيها، يتشاغل فيها، تعتمل الألسن فيها بالذكر، وهكذا ذكر القلب بهذا الاعتبار حركة القلب الحركة نفسها يقال لها: ذكر، حينما يتحرك القلب في آلاء الله -تبارك وتعالى-، ويتفكر في عظمته، وحينما يتفكر في هذه المعاني التي تضمنتها هذه الأذكار، فحركة القلب هذه ذكر القلب، هي ذكر، حركة هذه الجوارح حركة الجوارح بطاعة ربها ومليكها هذا ذكرها كما سيأتي في انقسامه وتفرعه إلى هذه الفروع، إذًا العملية التي نمارسها من حيث هي يقال لها: ذكر.
المادة المقولة إن كان ذلك من الذكر القولي حينما نقول: سبحان الله، فسبحان الله هذه ذكر، الحمد لله ذكر، لا إله إلا الله ذكر، الله أكبر ذكر، هذا يقال له: ذكر، فتقول: هذه العبارات هذه الجمل ذكر، وقولي هذا حينما أقولها هذا الفعل الصادر عني هو ذكر، فتقول: فلان في ذكر، يعني يذكر ربه، في مجلس ذكر، هؤلاء في ذكر، يعني أنهم يذكرون الله -تبارك وتعالى-.
وتقول لهذه الكلمات لهذه العبارات هذه الجمل ذكر، سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته[1]، تقول: هذا من الذكر الوارد عن النبي ﷺ، يعني ما يذكر وما يقال.
إذًا الذكر تارة يقصد به العملية، الممارسة، الحركة: حركة اللسان، وحركة القلب، وحركة الجوارح هذا ذكر، وما يقع عليه ذلك من الكلام المقول مما يقال، أو الفعل كل ذلك يقال له أيضًا: ذكر، فالذكر يقال لهذا وهذا.
والذكر التام عند من نظر إلى الذكر المقول باللسان يقولون: الذكر التام بهذا الاعتبار هذه الأذكار التي سنشرحها -إن شاء الله-: هو ما تواطأ عليه القلب واللسان، يعني لا يكون قولاً مجردًا والقلب لا يواطؤه، ولا يكون حاضرًا معه، ولهذا يقولون: بأن الذكر التام هو التصريح بما يدل على المذكور دلالة تامة، ويعرب عن ذاته واستحضار الذاكر المذكور في نفسه في قلبه، يعني هذا القائل أراد بذلك الذكر الذي نتشاغل بشرحه، العبارات الواردة عن النبي ﷺ فيما يقال في الصباح وفي المساء، وفي الصلوات، وعند النوم، وعند الاستيقاظ، وما إلى هذا، هذا الذكر التام منه ما يتواطؤ عليه القلب واللسان؛ فلا بدّ من حركة اللسان، ومن حركة الشفتين، أن يجري ذلك في الهواء، فهذا حقيقة الذكر، ولو أنه حرك ذلك في قلبه فقط وأجراه فإنه لا يكون من قبيل الذكر المجزئ شرعًا، فلا يقال: هذا قرأ الفاتحة مثلاً، أو هذا قال: سبحان ربي العظيم، أو هذا قال: الأذكار التي بعد الصلاة مثلاً، فإن هذا لا يعتبر شرعًا ولا يجزئ عنه، وهذا ينبغي أن يكون واضحًا.
وهكذا أيضًا يقال: الذكر كما يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "يطلق على المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كالتلاوة، وقراءة الأحاديث، ودرس العلم، والنفل بالصلاة"[2]، هنا أدخل فيه أشياء أوسع مما سبق، المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه، فالتلاوة، قراءة الأحاديث، درس العلم، النفل بالصلاة، وأيضًا الأذكار المنقولة عن النبي ﷺ فيما يقال في أول النهار وآخره، أو في الصلوات أو نحو ذلك.
هذا كله من الذكر، فأدخل فيه هنا ذكر اللسان، وكذلك أيضًا قراءة القرآن، والاشتغال بالعلم، وكذلك العبادة بالجوارح، فهذا كله لا شك أنه من الذكر، ونجد بعض العبارات تارة أضيق من هذا، وتارة أوسع من هذا، أضيق من هذا كقول بعضهم مثلاً: هو الإتيان بألفاظ ورد الترغيب فيها عن النبي ﷺ تقال في أحوال وأوقات مخصوصة، أو مطلقة، هذا يقصد الأذكار التي تقال باللسان فقط، لكن هناك ما هو أوسع من هذا، فيستعمل الذكر بمعنى ذكر العبد لربه ، هذا إطلاق واسع ينتظم أنواعه، ذكر العبد لربه سواء بالإخبار المجرد عن ذاته، إخبار تقول: الله يرانا ويطلع على مكاننا، ويسمع كلامنا، وهو أرحم بالواحد منا من الوالدة بولدها، هذا إخبار عنه.
الله واحد لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله هذا ذكر، الله على كل شيء قدير، الله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، هذا ذكر، بالإخبار المجرد عن ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه، الأحكام القدرية ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ما قدّره الله -عز وجل- كائن ولا بدّ، والأحكام الشرعية فحينما نتحدث عن كون الصلاة واجبة فريضة، والصوم -صوم رمضان- واجب، والحج واجب، وما إلى ذلك هذا كله حديث عن أحكامه، فهو داخل أيضًا في الذكر، كما سيأتي إيضاحه، وهكذا، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، كون الإنسان يقول: يا رب، الأدعية سواء كان ذلك مما ورد في القرآن أو في السنة، أو مما ينشئه الإنسان من عند نفسه، فإذا كان الإنسان في حال دعاء فهو في حال ذكر.
أو بإنشاء الثناء عليه بتقديسه، وتمجيده، وتوحيده، وحمده، وشكره، وتعظيمه، إنشاء الثناء عليه كأن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، فالعبد إذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي[3].
فهذا إنشاء الثناء عليه -تبارك وتعالى- بتقديسه وتمجيده وتوحيده، حينما نقول: لا إله إلا الله، هذا توحيد، حينما نقول: سبحان الله هذا تقديس، حينما نقول: بأن الله -تبارك وتعالى- متصف بجميع أوصاف الكمال، وأن له المجد والعظمة من كل وجه فإن هذه الأوصاف الدالة على السعة في الكمال هي أوصاف المجد، فمثل هذا كله من تمجيده، وهكذا حمده حينما نقول: الحمد لله، وشكره حينما نقول: أشكر الله، أشكر لك يا رب، وهكذا حينما نعظمه، هذا كله داخل في الذكر.
وقد يستعمل في معنى أخص، فيكون بمعنى إنشاء الثناء بما تقدم: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر وما شابه ذلك، يعني دون الذكر الذي يكون بالإخبار عنه، كأن نقول: الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في إلاهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، فهذا ذكر لكن هنا قد يراد به المعنى الخاص، وهو إنشاء الثناء عليه بما سبق، بما ورد عن النبي ﷺ مما يقال في أوقات معينة، أو أحوال محددة، أو كان ذلك مطلقًا مما يقوله الإنسان، فحينما يقول الإنسان: سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشة، ومداد كلماته، هذا ذكر، فهذا بالمعنى الخاص، وهذا المعنى الخاص هو الذي نتشاغل بشرحه، وهو الذي وضعت فيه كتب الأذكار، وهو الذي يتوجه إليه الذهن أول ما يتوجه حينما يقال: حافظ على الأذكار، لا تدع الأذكار، احفظ الأذكار، ردد الأذكار وما أشبه ذلك يقصد به هذا الذكر المتعلق باللسان، مما يكون من قبيل إنشاء الثناء والتنزيه، وما إلى ذلك مما جاء عن الشارع.
ومن ثم -أيها الأحبة- حاصل ذلك نقول: الذكر له معنى عام، وله معنى خاص، فهو بالمعنى العام يشمل كل أنواع العبادات من صلاة وصيام وحج وقراءة قرآن، وثناء، ودعاء، وتسبيح، وتحميد، وتمجيد، وغير ذلك من أنواع الطاعات؛ لأنها إنما تقام لإقامة ذكر الله ، ومن ثم تكون منقسمة إلى الأقسام الثلاثة من حيث المتعلق، منها ما يتعلق باللسان، منها ما يتعلق بالقلب، منها ما يتعلق بالجوارح، تكون موزعة على هذه الأمور الثلاثة هذا بالنسبة للمعنى العام، ولهذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب مما يقرب إلى الله من تعلم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله"[4]، هذا المعنى الواسع ما يتقرب إلى الله ما يتصل باللسان أو القلب أو الجوارح، وهكذا الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي -رحمه الله- يقول: "إذا أطلق ذكر الله فإن ذلك يشمل كل ما يقرب العبد إلى الله من عقيدة أو فكر -عقيدة يقصد التوحيد يعني: تقرير الاعتقاد-، هذا من ذكر الله ، أو فكر يعني حركة الفكر التفكر بآلاء الله وعظمته ودلائل وحدانيته هذا من الذكر، أو عمل قلبي، أو عمل بدني، أو ثناء على الله، أو تعلم علم نافع، وتعليمه، ونحو ذلك فكله ذكر الله تعالى"[5]، هذا أوسع إطلاقات الذكر.
المعنى الخاص: هو ذكر الله -تعالى- بالألفاظ التي وردت عن الله -تعالى- من تلاوة كتابه، أو إجراء أسمائه أو صفاته العليا على لسان العبد، أو قلبه مما ورد في كتاب الله -تبارك وتعالى-، أو الألفاظ التي وردت على لسان النبي ﷺ وفيها تمجيد وتنزيه وتقديس وتوحيد لله هذه الأذكار التي نشتغل بها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، لا حول ولا قوة إلا بالله، كل هذا داخل في الذكر.
لعلنا بهذا تصورنا الذكر في إطلاقاته، وإذا نظرنا في عبارات أهل العلم نعرف أنهم تارة يقصدون معنى خاص، وتارة يقصدون معنى أوسع من ذلك.
وسيأتي أيضًا ذكر مسائل توضح بعض الجوانب التي يُحتاج إليها في هذا الباب، ثم نشرع في شرح الأذكار.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، -والله أعلم-، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، برقم (2726).
- انظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 209).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).
- مجموع الفتاوى (10/ 661).
- الرياض النضرة (ص:245).