الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله ﷺ: لا تحاسدوا يفيد النهي عن الحسد، وعن أسبابه المؤدية إليه، وعن الآثار الناتجة عنه، والنهي يحمل على التحريم إذا لم يوجد صارف يصرفه إلى معنى آخر، والأدلة تدل على تحريم الحسد بجميع أنواعه، أيًّا كان دافعه، وذلك أن الحسد في حقيقته اعتراض على الله وعلى قدره وتدبيره.
فالحاسد معترض على إفضال الله على عباده، فهو يتمنى زوال النعمة عن هذا المنعَم عليه، سواء تمنى أن تتحول إليه، أو لم يتمنَّ ذلك، فيحسد هذا لأنه ربح في تجارته، وهذا لحصوله على وظيفة مرموقة، وهذا لتفوقه ونجاحه.
وقد يكون الحسد في الأمور المعنوية، كأن يحسده على ذكائه وفهمه وفطنته، وعلى نجابته، أو على عافيته، وبناء بدنه، أو يكون الحسد على جمال صورته، أو حسن منطقه، أو غير ذلك من الأمور التي يتفاضل الناس فيها.
وقد يحسد العبد على عمله الصالح في طاعة الله ، على حفظه للقرآن، أو على العلم.
وغالباً يكون الحسد بين أهل المهن والصنائع والتخصصات المتماثلة، أو المتشابهة، ولذلك قد لا تجد عالمًا يحسد نجاراً أو حداداً، وإنما تجد الحسد بين العلماء، وبين أصحاب الحرفة والمهنة الواحدة من المزارعين وأرباب المعادن، وأصحاب العقار مثلاً.
فالحسد داء عضال لا يكاد يسلم منه أحد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ما خلا جسد من حسد ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه"[2]، ومعنى ذلك أن الحسد كامن في النفوس، كما أن النار كامنة في الزناد، ولكن الله -تبارك وتعالى- لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فهو شيء يقع في النفس من غير طلب من الإنسان، ومن غير إرادة، فإن كبته الإنسان واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ودعا لصاحب النعمة بالبركة، وصرف نظره عن هذا فإن الله لا يؤاخذه على ما يقع في قلبه، لكن إن صوب نظره إليه، وفكر قائماً وقاعداً متى يقع مكروه للمنعَم عليه، ومتى تزول عنه النعمة، ولربما تعدى ذلك إلى الاستطالة والكلام باللسان، إما بالوقيعة بعرضه، أو انتقاصه، أو تنفير الناس عنه.
والحسد يكون أيضاً بين النساء الضرائر، فتجد المرأة تفعل كل مستطاع من أجل أن تَكْفَأ قصعة صاحبتها، ومن أجل أن يبغضها زوجها، وأن يفارقها.
والقاعدة الشرعية في هذا الباب: "أن الخطاب الشرعي إذا توجه للمكلفين بشيء لا يدخل في طاقتهم فإنه ينصرف إما إلى سببه، وإما إلى أثره"، فمثلاً من شروط التوبة الندم، فهل يتحتم على الإنسان أن يندم وهو لا يستطيع، قطعاً لا، بل الخطاب هنا يتوجه إلى السبب، نقول له: انظر إلى عذاب الله، وما أعد للعاصين، فإذا تأملت في هذا المعنى حصل لك الندم.
وهكذا حينما ينهى الله عند إقامة الحد على الزناة عن الرأفة: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النــور:286]، الرأفة رحمة رقيقة تقع في قلب الإنسان من غير إرادة ولا قصد، فالإنسان إذا رأى من يقام عليه الحد لا شك أنه يرق قلبه، فهل يأثم؟ لا، لأنه لا يملك هذا، والله يقول: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286] فالخطاب هنا إذاً يتوجه إلى الأثر، وهو أن لا يخفَّف الحد، أو يُلغَى.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله، (4/1986)، برقم: (2564)، والبخاري، كتاب الأدب، باب: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا، (8/ 19)، برقم: (6066)، بلفظ: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا.
- أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21).