الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
تاريخ النشر: ٢٥ / جمادى الآخرة / ١٤٢٧
التحميل: 1874
مرات الإستماع: 6531

لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي باب تعظيم حرمات المسلمين أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أنس عن النبي ﷺ قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه[1].

هذا الحديث  يدل على أن هذه القضية من الواجبات، وأنه إن لم يفعل ذلك فإنه يكون قد نقص من إيمانه الواجب، والذي يستحق عليه العقوبة، لأن القاعدة في هذا الباب أن النصوص الواردة في النفي مثل والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوايقه[2]، تحمل على نفي الإيمان أولا، لكن إذا وجدت أدلة تدل على أن هذا غير مراد وأن الإيمان موجود، فعندئذ ينتقل إلى الصحة، هل إيمانه صحيح أو لا؟، فإن وجدت أدلة على أن الإيمان صحيح فإن ذلك يحمل على نقص الإيمان الواجب، لأن الإيمان ينقسم إلى إيمان واجب وإيمان مستحب، والله يقول: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48] وهذا لا شك أنه دون الشرك قطعاً، فدل الحديث على أن هذا الإنسان متوعَّد بالعقوبة، وأنه تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولكن عنده من الإيمان ما ينجيه يوم القيامة، ولا يكون كافراً بهذا النفي الوارد في الحديث.

 قد يقول بعضهم: هذه قضية في القلب، وأنا لا أملك ذلك، والله يقول: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا  [البقرة:286]، نقول لهم: هنا يتوجه الخطاب إلى الأسباب التي توجِد مثل هذا، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فلا يكون الإنسان أنانياً، همه مصلحته، وأن يعيش برغد، ولا يهتم بإخوانه ولا يريد لهم الخير.

وجاء في بعض الروايات ما يقيده ويوضحه، قال ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير[3]، والخير يشمل المال، لأن الله قال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، يعني: المال، ولهذا قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20].

 ويدخل في الخير العمل الصالح والاستقامة والتوبة، وستر الحال، وتحصيل أنواع الكمالات.

وهذه القضية معدومة اليوم بين المسلمين، فنشاهد أحداثاً مؤلمة يندى لها الجبين تقع لهم، بل نراهم صاروا محل تجارب لجميع أنواع الأسلحة الفتاكة، ويتعرضون لأنواع القهر والظلم والاضطهاد، أطفالهم تحت أنقاض البيوت المهدمة، وأشلاؤهم ودماؤهم لا تراها حتى في المسالخ التي تذبح فيها الحيوانات، ومع هذا لا تجد من يحرك ساكناً.

واجبنا تجاه ما يحدث للأمة الإسلامية

بعض الناس يتساءل ويقول: ما هو واجبنا في مثل هذه الأحداث؟

نقول لهم:

أولاً: ينبغي أن نتذكر أن هذا ما وقع للأمة إلا بسبب ضعفها وعجزها، وهذا الضعف إنما هو نتيجة تخليها عن دينها، فالأمة إذا تخلت عن دينها وأعرضت عن ربها -تبارك وتعالى- فإن الله يخذلها، لأن الله يقول: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فالأمة ما نصرت ربها -تبارك وتعالى، فأدى ذلك إلى هذا الذل والهوان، والله يريهم آياته ويبتليهم لعلهم يرجعون.

وهذا الإذلال يقع على يد أرذل الخلق وأجبنهم وهم اليهود، عددهم لا يتجاوز أربعة ملايين ويُذلون أكثر من مليار ونصف غاية الإذلال، فإذا أرادت الأمة أن تخرج مما هي فيه من الذل والهوان فلتراجع ربها، ولتعد إلى دينها، وليبذل كل إنسان جهده في إصلاح نفسه أولاً، ثم في إصلاح أسرته وأقاربه، وبهذا تصلح المجتمعات، فإذا حصل هذا تحقق وعد الله بالنصر والتمكين، ولا يستطيع أحد أن يتغلب عليهم، كما فعلت الأمة في أول عهدها إبان مجدها.

ثانياً: أن نتذكر أن هذه الأمور التي تقع هي وفق حكمة الله وإرادته وتدبيره، والله ليس بظلام للعبيد، لأن الله يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].

ثالثاً: أن نحسن الظن بالله ، لأن الله عاب الظانين به ظن السوء، فقال: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] يقول ابن القيم -رحمه الله: "فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يُتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا فقد ظن بالله ظن السوء"[4].

رابعاً: أن لا نيأس ولا نقنط من رحمة الله، فاليأس لا محل له، بل نحن نرى في مضامين هذه الأحداث  بوارق الفجر وطلائعه، و بوادر النصر بإذن الله -تبارك وتعالى.

 فلا يختلف اثنان أن الأمة وصلت خلال العقود المتأخرة إلى حال من ألوان الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى، وتصحيح المسار، بلغت بهذا إلى مبلغ أقضّ مضاجع الأعداء، فاستعجلوا المنازلة حتى إنهم مزقوا شعاراتهم التي لطالما تبجحوا بها، وغروا بها الملايين من البشر، وصارت مصداقيتهم في الحضيض وما كانوا ليفعلوا هذا إلا أنهم قد رأوا أمراً لا طاقة لهم بالصبر عليه، كما قال بوش: "هذا هو الدين الأول في العالم الذي ينتشر"، وقال أبوه قبل ذلك، "إننا لا نستطيع أن نوقف هذا المد، ولكننا سنحاول أن نغير مجراه"، والبوادر ظهرت للعيان، فنرى أنهم يبرزون دعاة يوجهون المجتمع بأطروحات وبأفكار منحرفة، ما أنزل الله بها من سلطان.

خامسا: ينبغي أن يتذكر الإنسان أن عليه مسئولية يجب أن يقوم بها تجاه هذا الدين، فلو كل إنسان جدَّ واجتهدَ وأتقن عمله، وأصلح ما فسد في المجتمع لاستقامت أحوال الأمة.

وأما الإعراض عن الإصلاح، والاشتغال بالدنيا، وإلقاء التبعة على الآخرين فهذا بطبيعة الحال يكون عائقاً من عوائق النصر، وأسوأ من هذا الذي يعيش حياة بهيمية غارقًا في الشهوات ولاهثًا وراءها ليس له هم غيرها، إذا رأيته لا تفرق بينه وبين اليهود والنصارى، لا في لباسه ولا في مظهره، ومثل هذا لا يُتوقع منه نصر، ولا أن يدفع عن حياض الأمة، وعن دينها.

سادساً: نتذكر أن هذا الدين منصور، ومحفوظ، وأن العاقبة له، قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]  فكل من آذى الإسلام وأهله من الطغاة قد ذهب وبقي الإسلام،  أين فرعون وأعوانه؟ ذهبوا وبقي الإسلام.

أين التتار الذين أذاقوا المسلمين سوء العذاب؟ ذهبوا وبقي الإسلام.

هذه بعض أفعالهم تجاه الإسلام والمسلمين جاءوا إلى الشام، ودخلوا دمشق وحلب وحماة وحمص، فاجتمع النساء والأطفال في المساجد، فكانوا يدخلون المساجد ويفتضون الأبكار أمام أهلهن، وقتلوا من لقوه من الرجال، وبقي الأطفال يهيمون على وجوههم ليس لديهم من يعولهم، ولا من يطعمهم، وأنتنت البلد من الجيف، ونهبوا كل شيء فيها، فلا شك أن المسلمين حينها ظنوا أن الإسلام قد انتهى وأن الدنيا أظلمت عليهم.

وفعلوا هذا الفعل نفسه لأهل بغداد لما جاءوا إليها، بل ذبحوا خليفة المسلمين بالسكين بعدما أعطوه الأمان، وفي بعض الروايات داسوه حتى مات -لأنهم كان عندهم عقيدة أن دم آل البيت لا يذهب في الأرض، وقتلوا أهله وأولاده، وذبحوا عشرات من المسلمين ذبح النعاج، وكانت حصيلة القتلى في بغداد فقط أكثر من مليونين، على قلة الناس ذاك الوقت، وأنتنت بغداد من الجيف.

كان التتري يجيء فيمسك مائة من المسلمين قد اختبئوا في دهليز أو نحوه، ويقول لهم: انتظروا إلى أن أحضر السيف الذي أذبحكم به، ولا يتحركون من الذل والخوف والهلع.

أين ذهب الصليبيون الذين احتلوا بيت المقدس وجلسوا فيه نحو مائة سنة، وقتلوا المسلمين فيه حين اجتمعوا، حتى جرت الخيل في الدم الذي وصل إلى الركب، حتى جاء صلاح الدين فاتحاً.

والعبيديون القرامطة حكموا من المغرب إلى الحجاز حتى الحرمين، وكان إذا ذكر اسم الملك في خطبة الجمعة قام الناس على أرجلهم، وأما في مصر فقد ألزمهم أنهم إذا سمعوا ذكره أن يسجدوا، والذي لا يسجد تقطع رقبته بالسيف، وكان يسلخ العلماء وهم أحياء سلخاً على يد يهودي، حتى إنه سلخ أحد العلماء وكان يقرأ: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22]، فاليهودي أشفق عليه حين وصل إلى منطقة القلب ثم طعنه ليريحه.

فذهب هؤلاء كلهم، وبقي الإسلام محفوظاً.

والله يختبرنا وينظر أينا يتمسك بدينه، قال تعالى: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [محمد:4]، فالخوف علينا وليس على الدين.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 14)، رقم: (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (1/ 67)، رقم: (45).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوايقه، (8/ 10)، برقم: (6016)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار، (1/ 68)، برقم: (46)، بلفظ: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
  3. أخرجه النسائي (8/ 115)، برقم: (5017)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 155)، برقم: (73).
  4. زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 205).

مواد ذات صلة