الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله: إذا زنت الأمة، المقصود بالأمة يعني: المملوكة الرقيقة التي تباع وتشترى.
وقوله: فليجلدها أي: الحد وهو خمسون جلدة، لقول الله -تبارك وتعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فإنها تجلد نصف الحد الذي تجلده الحرة، وهكذا الرقيق بالقياس على الأمة.
ولا يثرب عليها، معنى لا يثرب عليها يعني: لا يوبخها، لا يقول لها: يا زانية، يا فاجرة، ونحو ذلك؛ لأن الحكم إنما هو الجلد، هذا هو الحد، فإذا جلدت حصل مقصود الشارع، وحصلت العقوبة المرتبة على هذا الفعل القبيح .
ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر متفق عليه.
الأمر في قوله ﷺ: فليبعها للاستحباب وللندب عند الجمهور من أهل العلم، خلافاً لمن حمله على الوجوب، والسبب في أمر النبي ﷺ ببيعها ولو بشيء زهيد وهو بحبل من شعر يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن ذلك لمفارقة أهل المنكر، والفواحش، فلا يصحبهم الإنسان ولا يبقيهم عنده في بيته، وإنما يتخلص منها، قد تقع منها زلة أول مرة، ثم يحتمل منها الثانية، يقام عليها الحد، فإذا تكرر ثلاث مرات فإن ذلك يدل على ترسخ هذا الوصف الذميم فيها، وأنه لا يكاد يفارقها، وأهل الباطل ينبغي مفارقتهم، فلا يعاشرهم الإنسان، قال النبي ﷺ: لا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تصحب إلا مؤمنا[2].
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه تسيء إلى أهل الدار، تدخل عليهم امرأة تزني وتختلط بنسائهم، ويكون ذلك سبباً لربما لتدنيس وتلطيخ أعراضهم، فهذا أمر لا يليق، والعلاقة بين هذا الحديث وبين الباب -ستر عورات المسلمين- أن هذه المرأة التي وقع منها هذا وهي الأمة تجلد يقام عليها الحد دون أن تُفضح، ودون أن يذاع ذلك ويتعدى إلى المقال، فحقها الحد دون أن يكون هناك أمر زائد عليه، فكيف إذا فضحها وأفشى ذلك ونشره، فإذا كان منهيًّا عن التثريب عليها فإن الشناعة عليها أمام الناس تُمنع من باب أولى.
ثم ذكر الحديث الأخير في هذا الباب أيضاً، وهو حديث أبي هريرة : أُتِي النبيُّ ﷺ برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان[3].
مسألة:
لا يجوز لأحد أن يلبس ثياباً فيها التصاوير، وهذه تمنع من دخول الملائكة، فإذا كان ذلك في المسجد فهو أشد، فمن كان عليه تصاوير فلا يجلس في المسجد، من كان عليه ثوب فيه تصاوير فلا يجلس في المسجد، هذه تطرد الملائكة، لا يجوز لأحد أن يلبسها، لا يبقى في البيت ولا في المسجد، وإنما يطمس الصورة، وفي أقل الأحوال يطمس الرأس، ولا يجوز اصطحاب المنكرات إلى المساجد، هذه بيوت الله .
يقول: أُتي النبي ﷺ برجل قد شرب خمراً قال: اضربوه، يعني: اضربوه الحد، أقيموا عليه الحد، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، وهذا يدل على أن حد الخمر يمكن أن يحصل بهذا، يعني: يضرب بطرف الثوب، ويضرب بنعل أو يضرب بعصا لكنها لا تكسر عظماً ولا تجرح، فليس المقصود بإقامة الحد على الإنسان إزهاق نفسه وقتله وإنما المقصود به هو التأديب، فيقول: والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، والخزي هو شدة الانكسار، ولهذا فسره بعض أهل العلم بأنه أعظم ما يمكن أن يتصور في الحياء، تقول: فلان وقع في موقف مخزي، بمعنى أنه موقف في غاية الإحراج، فيقول: قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان، رواه البخاري، هو حقه أن يقام عليه الحد، فلماذا يُدعى عليه بالخزي؟، لماذا لا يدعى له بالهداية؟، والعلاقة بين هذا الحديث والباب واضحة، وهي أن النبي ﷺ نهى عن هذه الكلمة، وقال: لا تعينوا عليه الشيطان.
فإذا كان الإنسان يفشي ويذيع ما يقع للناس من منكر ومن شر يذهب ويقول: فلان فعل كذا، وفلان حصل منه كذا، فهذا إعانة للشيطان عليه، بل هو يعين غاية الإعانة لأن هذا الإنسان قد يُدْبر تماماً، ويحرج من رؤية أهل الخير، ومن الجلوس معهم، لأنه يشعر أن عرضه قد مزق، صار الناس يتناولونه ويتكلمون في حقه، ويشيعون أخباره، وأعماله السيئة، فأعانوا الشيطان عليه، مثل الإنسان الذي يطرد دابة قد انفلتت منه، ناقة مثلاً، فهو لا يزيدها إلا نفوراً، لكن لو أنه تألفها وتلطف بها ورفع لها شيئاً من الأرض أقبلت عليه فأخذ بخطامها، فالناس حينما يأتون ويشنعون على الشخص، وينشرون هذا أحياناً من باب الغيرة، قد يكون الشخص قريبًا ويقبل النصيحة، ويسمع ويستجيب، وقع في خطأ فلا يصح أن يبادر الناس مباشرة برسائل الجوال، انشر تؤجر، وتُعطَى عبارات أحياناً قاسية، فلان كذا وفلان كذا، هي زلة يمكن أن يطلب من بعض الأشخاص أن يتصلوا عليه برفق وبأسلوب طيب وبكلام طيب يتألف قلبه، لا بشكل واسع، وبكلام جارح، ثم الذي يتصل والذي يرسل رسالة عبارات قاسية جارحة، فيشعر الرجل أنه ما بقي له ماء في وجهه، وأنه لا مجال له، ولا شيء يحافظ عليه أمام الآخرين، وأنه كلما نظر إلى وجه إنسان ظن أنه سيأتي ويهجم عليه، وأنه سيشنع عليه، وما أشبه ذلك، هذا خطأ، فالمفروض أننا نتبصر في الأمور التي نريد أن نقوم بها، الأمور التي نفعلها، ومن الناس من لا يحسن هذا أصلاً، لا يعرف إلا أسلوب الوقيعة والشتيمة وجرح المشاعر، وما أشبه ذلك، فهذا ما يصلح لمعالجة عيوب الناس، وانحرافاتهم وأخطائهم، وكان النبي ﷺ يقول: ما بال أقوام..[4]، بدلاً من أن يقول: يا فلان ويحرجه أمام الآخرين.
ولذلك كم من إنسان نفر قلبه غاية النفور، وتحول إلى حال أسوأ بكثير مما كان عليه، ولربما صار يعادي الدين بسبب الأسلوب في المعالجة، الأسلوب ما كان جيدًا، قد يكون الخطأ يسيرًا، لكن الأسلوب كان في غاية القسوة، وبزعم هذا الإنسان القاسي الذي وجه إليه عبارات قوية جداً في حقه تكسر العظم، بزعمه أنه يريد الإصلاح، والإصلاح ما يأتي بهذه الطريقة لطماً في الوجه، وإنما ينبغي للإنسان أن يحدد هدفه، إذا كان المقصود كسر هذا الإنسان لبيان أنه مبطل، يعني: نبين للآخرين أن هذا إنسان لا يحمل حقًّا، ولا نرجو منه هداية، فهذا له أسلوب، أما إذا كان المقصود هو نصحه وتقديم الخير له ودعوته فلابد من اللطف، والرفق ولا داعي للدعاء عليه، إذا كنا نريد هدايته، ادعوا له أنّ الله يهديه.
يأتي الرجل ويتحدث عن زوجته، ويقول: فعلتْ وتركتْ، أكثر من واحد، اليوم واحد وأمس واحد، يقول: أنا إلى الآن متوقف ما دعوت عليها، لماذا تدعو عليها؟، ادع لها، لأنك إذا دعوت لها واهتدت فهذا هو عين المصلحة لك، لكن إذا دعوت عليها أنت لا تستفيد شيئاً إطلاقاً، ولكن الإنسان في كثير من الأحيان لا يستطيع أن ينضبط وأن يسيطر على تصرفاته في أوقات الغضب واحتدام النفس، والمفروض أن الإنسان لا يتصرف تصرفاً إلا وهو محسوب، يعرف ماذا يريد، فإذا كان لا يستطيع هذا فليلتزم الصمت، لأنه قد يفسد ولا يصلح، وهذا مع الجميع، مع الزوجة، ومع الولد إذا أردت أن تؤدبه ومع الجار، ومع الأخ في البيت، ومع القريب، ومع البعيد، ومع الإنسان الذي تتعامل معه، والذي تطالبه بدين، لا تتصرف وأنت لا تستطيع أن تسيطر على مشاعرك، هذا خطأ فإن هذا يفسد ولا يصلح، فإذا كان الإنسان يؤدب ولده، ويتكلم عليه وكذا، ويشعر أنه يتشفى فهذا انتقام وليس بتأديب، فإذا كنت تشعر أنك تتشفى وأنت تضرب أو تتكلم عليه فهذا انتقام وليس بتأديب، التأديب أن تضرب وقلبك ينعصر وتود أن هذا الضرب يقع عليك، وتنظر إليه وأنت تضربه، لا يكون تألم فعلاً، لا يكون هذا الضرب فعلاً أكثر مما يطيق، ثم تنظر إليه بعد الضرب، هذا قلب المشفق، وقلب المؤدِّب، أما الذي يضرب -نسأل الله العافية- ضرباً لو ضرب بعيرًا لكسره، هذا ما يصلح، عموماً.
أنا أقول: إن الذي ينبغي أن يراعى دائماً مع الناس جميعاً أن يحدد الإنسان ماذا يريد، ماذا تريد من هذه الرسالة بالجوال؟، ماذا تريد من هذه المكالمة؟، ماذا تريد من هذه الرسالة التي كتبتها بيدك؟، ماذا تريد حينما تتوجه لفلان لتتكلم معه في أي قضية من القضايا؟، هل تريد تقريبه وجلبه للخير وتعريفه بالخطأ ليتخلص منه؟، هذا له أسلوب، بأسلوب لطيف، وبأسلوب جيد يجعل هذا الإنسان يقبل الحق غاية القبول، أم أنك تريد كسره؟، أحياناً يكون هذا هدفًا، يكون إنسان قد اغتر به الناس وفتنهم بضلالاته وبدعه وأهوائه التي يخرج بها في القنوات وكذا، وظن كثير من الناس أن عنده علمًا، وهو أبعد ما يكون عن الخير وعن السنة وكذا، فهذا يمكن أن يُردَّ عليه رد قوي صارم، يجعل هذا الإنسان يُتبين أمره أمام الملأ أنه جاهل ما يفهم شيئًا، يمكن إذا كان هذا هو الهدف، إذا كانت المصلحة تقتضي هذا، لكن هذه حالات محددة، أما أن يكون هذا الأسلوب مع الجميع فلا، اتق الله، هذه محادة لله ، اتق الله، فعلك هذا هو مظاهرة لأعداء الله، الأسلوب هذا ما يصلح، فنسأل الله أن يلطف بنا، وأن يهدي قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يصون ألسنتنا وجوارحنا من كل ما لا يرضيه، وأن يرزقنا وإياكم الحكمة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، (3/ 71)، برقم: (2152)، ومسلم (3/ 1328)، برقم: (1703).
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (12/ 17)، برقم: (8938)، وأبو داود الطيالسي في مسنده، (3/ 664)، برقم: (2327).
- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال، (8/ 158)، برقم: (6777).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، (1/ 98)، برقم: (456)، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، (2/ 1141)، برقم: (1504).