إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: قبل أن أبدأ درسَ هذا اليوم أحببتُ أن أعرض عليكم أمرًا، وهو أنَّ ثمة مسائل هي من صلب العلم ومن متينه، وليست من مُلَحِه ولا فضولِه، هذه المسائل أرى أن تُقدَّم بين يدي شرح الكتاب؛ لأننا نحتاج إلى استحضارها والتَّبصر بها عند شرح الآيات والأحاديث من الأذكار، فإن رأيتُم أن نذكرها في البداية ذكرناها، وإلا تركتها وابتدأت مُباشرةً بشرح ما أورده المؤلفُ في هذا الكتاب "حصن المسلم" من الأذكار.
هذه المسائل أولها: أنواع الذِّكْر من جهة القلب واللِّسان وما إلى ذلك، ثم أنواع الذِّكْر من حيث الإطلاق والتَّقييد، يعني: ما لم يُقيد بوقتٍ، جاء مُطلقًا، أو ما قيِّد بزمانٍ أو مكانٍ أو حالٍ، ثم أنواع الذِّكْر من جهة المأثور وغير المأثور؛ هل للإنسان أن يُنْشِئ من عنده ذكرًا يقوله؟ وهذا على أحوالٍ.
كذلك بعض المسائل مثل: قراءة القرآن من الذكر، أيُّهما أفضل: القراءة أو الأذكار التي لو قال الإنسانُ: سبحان الله، لا إله إلا الله، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، هل هذا أفضل أو يقرأ القرآن؟ وهل هذا على كل حالٍ أن يُقال: هذا أفضل، أو هذا أفضل، أو فيه تفصيل؟
كذلك أيضًا فيما يتعلَّق بحكم الذِّكْر، وأنَّه يختلف ويتنوَّع: تارةً يكون واجبًا، وتارةً يكون مستحبًّا، وتارةً يكون مكروهًا، وتارةً يكون محرَّمًا، والله أمر به فقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10]، والأصل أنَّ الأمر للوجوب.
كذلك أيضًا ما يتعلق بالطَّهارة: هل يُكره الذكرُ على غير طهارةٍ؟ هل الجنب يذكر أو لا يذكر؟
كذلك أيضًا حكم الزيادة على الأذكار المأثورة، هو يقول الأذكار المأثورة، لكنَّه أيضًا يأتي بأذكارٍ غير مأثورةٍ، حكم الزيادة على العدد، هل يلتزم العدد الوارد؟ مثلاً: أن يُسبح ثلاثًا وثلاثين، وأن يحمد ثلاثًا وثلاثين، وأن يُكبِّر ثلاثًا وثلاثين، لو زاد إلى الأربعين في كل واحدةٍ، أو إلى الخمسين، فما الحكم؟ هل يُؤثر أو لا يُؤثر؟
كذلك التَّغيير في الألفاظ الواردة، لو غيَّر قال: اللَّهم إني أسألك العافية، لو قال: اللهم أسألك العافية. اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، لو قال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن عبدتك مثلاً. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي. هل له أن يُغير إذا كان هذا التَّغييرُ قد لا يقلب المعنى، لا يُؤثر في المعنى، لا يُغيره؟
كذلك أيضًا الاجتماع في الذكر: هل لنا أن نجتمع ويقرأ واحدٌ منا قرآنًا مثلاً؟ أم نجتمع لنتذاكر نِعَم الله علينا وفضله أو لا؟
مسألة الجهر بالذِّكْر: ما المشروع؟ هل يجهر بالذِّكْر أو لا؟ والتَّفصيل في هذا، وأذكار الصَّلوات، وما مقدار الجهر الذي يصدق عليه أنَّه جهر.
كذلك مسألة التَّسبيح بعقد الأصابع، أو التَّسبيح بغيره؛ كالآلة هذه التي تُباع ويُسبِّح بها بعضُ الناس، أو المسبحة، أو نحو هذا.
كذلك أيضًا حينما نُقيد الذِّكْر المطلق: نُقيده بزمانٍ أو مكانٍ أو حالٍ لم يرد تقييده فيها، فما الحكم؟ يعني: إذا أراد الإنسانُ أن يجلس قال: اللَّهم صلِّ على محمدٍ. أراد أن يتبخَّر قال: اللَّهم صلِّ على محمدٍ. مثلاً قيَّده، والله أطلق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
كذلك إذا فاتت الأذكارُ: أذكار الصَّباح، أو أذكار المساء، هل له أن يقضيها أو لا؟ وغير أذكار الصَّباح إذا فاتت: الترديد خلف المؤذن هل له أن يقضي أو لا؟
وقُلْ مثل ذلك في أنواعٍ من هذا الذكر الذي يتعلَّق بوقتٍ، أو مناسبةٍ، أو حالٍ، أو مقامٍ.
كذلك أيضًا أوقات الذكر: في النصوص الواردة: العشي، والإبكار، متى العشي؟ ومتى الإبكار؟ الغدو والآصال، متى يكون الغدو والآصال؟
الأذكار في طرفي النَّهار، ما هما طرفاه؟ هل يقول أذكارَ المساء بعد صلاة المغرب؟ هل تُقال بعد صلاة العشاء؟ هل تُقال بعد صلاة الظهر باعتبار أنَّه دخل المساء؟
الصباح والمساء، متى يبدأ الصباح في الشَّرع؟ ومتى يبدأ المساء؟ ومتى ينتهي المساء؟ هل هو ينتهي بغروب الشمس، أو يمتدّ إلى نصف الليل مثلاً، أو إلى العشاء؟
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، إلى آخر الآيات التي جاءت فيها كثرةُ الذِّكْر، ما الضَّابط؟ متى يكون الإنسانُ من الذاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات؟
هذه هي المسائل، مَن يرى أن نذكر هذه المسائل؟ كلكم، وأنا هذا رأيي بلا تردُّدٍ؛ فهذه مسائل لا يُستغنى عنها، وقد نحتاج إليها في شرح عامَّة ما يرد من الأذكار كما سترون: شرح الآيات، وشرح الأحاديث، كل هذا يرتبط بهذه القضايا، وهذا من أنفع العلم إن كنا نُميز في العلم، هذا من أنفع العلم، ومن أحسنه، ومن أكثره عائدةً على أهله.
فنسأل الله أن يُبارك لنا ولكم في ذلك، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات.
نبدأ بهذه المسائل، وأرجو أن نستحضر ذلك جيدًا؛ لأننا سنحتاج إليها عند شرح ما سيأتي كما سبق، وهنا أنواع الذكر:
الذكر كما عرفنا يتعلَّق بالقلب، واللِّسان، والجوارح بمفهومه الواسع الشَّامل، وذكر اللِّسان إنما يستتمُّ إذا كان ذلك مع مواطأة القلب، فتكون أكمل حالاته حالة ذكر اللِّسان إذا كان مع مُواطأة القلب، فهذا بأعلى المراتب، وهو أفضل الذِّكْر المأمور به، ويدخل في هذا الذكر كما سبق قراءةُ القرآن، والأذكار، وما إلى ذلك، فهنا اللِّسان يعتمل بذكر الله ، والجَنان حاضرٌ معه، فإذا اجتمع هذا وهذا فذلك هو الكمال.
يلي ذلك ذكر القلب، ونحن عرفنا في مناسباتٍ شتَّى في الأعمال القلبية، وأيضًا في الكلام على الأذكار وفي غير ذلك من المناسبات أنَّ جنسَ أعمال القلوب أفضل من جنس أعمال الجوارح التي منها اللِّسان، لكن حينما يكون ذكرُ اللِّسان مع مُواطأة القلب فهذا هو الأكمل، وهذا هو الذكر الحقيقي شرعًا، إذا قيل: فلانٌ يذكر ربَّه، اذكر ربَّك، الأذكار المشروعة في العبادات: في الصَّلاة، وفي غيرها، كل ذلك يكون باللِّسان ولا بدَّ، فإذا حصل معه مواطأةُ القلب اكتمل.
المرتبة التي تليه هي: ذكر القلب، وذكر القلب هذا يتنوَّع، القلبُ كما هو معلومٌ يتحرَّك بالفكر، والإرادة، والنِّيَّات، والمقاصد، فهو لا يتوقف، حركته دائمة، وأفضل هذه الحركة هي التَّفكر والذِّكْر، وقد ذكرتُ ذلك بالتَّفصيل في الكلام على الأعمال القلبية عند الحديث عن منزلة التَّفكر، وذكرتُ هناك كلامَ السَّلف في فضل التَّفكر، وأنَّه من أجلِّ العبادات.
فهنا من ذكر القلب: التَّفكر في عظمة الله -تبارك وتعالى-، وجلاله، وجبروته، وملكوته، وآياته في سماواته وأرضه: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، فهؤلاء هم أولو الألباب الذين أثنى الله عليهم، والنبي ﷺ لما ذكر الآيةَ من سورة آل عمران قال: ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّر[1]، فهذا ذكر القلب.
ويدخل في ذكر القلب أيضًا: ذكر القلب عند الأمر والنَّهي: أن يكون القلبُ مُنقادًا، ممتثلاً، مُستحضرًا لمقام العبودية بين يدي الله ، فهو لا يفعل هذه العبادة خوفًا من أحدٍ، أو مجاملةً لأحدٍ، أو يفعل ذلك على سبيل التَّقليد والعادة.
هذه المرأة حينما تتحجَّب تتحجَّب لأنَّ الله أمرها بذلك، لا تفعل هذا على أنَّه من باب التَّقاليد والأعراف الاجتماعية، ثم هي إذا سافرت نزعتْ عنها هذا الحجاب.
وقُلْ مثل ذلك في أعمالٍ يعملها الإنسانُ، ولكنَّه لا يحضر قلبُه عندها؛ فلا يكون قلبُه مُنقادًا وممتثلاً لأمر الله -تبارك وتعالى-.
فالعبد بحاجةٍ إلى هذا عند الأمر والنَّهي: أن ينقاد قلبُه، وأن يقرّ، وأن يُذعن، وأن يستحضر أنه يتعبَّد لله بهذه الأعمال، ويتقرَّب إليه بنفسٍ راضيةٍ، بنفسٍ مُنشرحةٍ، لا يفعل ذلك كأنَّه شيء يُثقل كاهله ويُرهقه، كأولئك الذين أخبر الله عنهم من مُنافقي الأعراب: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا [التوبة:98]، هو لا يستحضر التَّعبد بهذا الفعل، بخلاف الآخر: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ [التوبة:99]، فهذا من ذكر القلب.
ويدخل في ذكر القلب أيضًا: ذكر الله -تبارك وتعالى- تسبيحًا، وتهليلاً، ونحو ذلك، دون النُّطق بلسانٍ؛ ولذلك بعض الناس يقول: أنا أذكر الله لكن لا أُحرِّك لساني وشفتي بذلك، أنا أقرأ المعوذات في الصَّباح والمساء مثلاً ولكن لا أُحرِّك لساني، أنا أقرأ آيةَ الكرسي، أنا أقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة عند النوم، ولكن لا أُحرِّك بذلك اللِّسان والشَّفتين، فهذا يُعتبر من الذِّكْر؟
هذا ذكر قلبٍ، ولكنَّه ليس هو الذكر الشَّرعي المأمور به الذي يُجزئ عن صاحبه في الصَّلاة وفي الأذكار المأمور بها، ولكنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، فهذا يُؤجَر على حركة القلب بهذا النوع من الذكر، وإن لم يكن ذلك من قبيل المجزئ في الأذكار الواجبة والأذكار المستحبَّة، فنُفرق بين هذا وهذا، يعني: كون الإنسان يُؤجَر غير أنَّ الإنسان يُجزئ عنه هذا الذكر الذي قاله.
لو أنَّه نزل في منزلٍ وقال: أعوذ بكلمات الله التَّامَّات من شرِّ ما خلق[2]، قاله بقلبه فقط، يعني: أجراه على قلبه دون حركة اللِّسان، فهذا لا يحصل أثره، ولا يكون قد قال دعاء المنزل، أو الذكر الذي يُقال عند نزول المنزل.
وقل مثل ذلك في التَّلبية، والتَّكبير في مواطن التَّكبير، فهذا كله يُؤجَر عليه، ولكنَّه لا يُجزئ عنه.
فهذا نوعٌ من ذكر القلب، هذا الذكر في القلب لا شكَّ له آثار حميدة، كما يقول الحافظُ ابن القيم: فإنه يُثمر المعرفة، يُهيج المحبَّة، يُثير الحياء، يبعث على المخافة، يدعو إلى المراقبة، يَزِع عن التَّقصير في الطَّاعات، والتَّهاون في المعاصي والسّيئات[3].
هذه آثار لا تُنكر، لكن هذا الذكر يحتاج معه إلى ذكرٍ آخر باللِّسان، وذلك في الأذكار المقولة، يعني: التَّفكر في خلق الله ، واستحضار العبودية، والامتثال عند تنفيذ الأوامر واجتناب النَّواهي.
هذا حركة القلب بالفكر والانقياد، هذا لا إشكالَ فيه أن يكون بالقلب، لكن الأذكار القولية هذه لا يُجزئ فيها ذكر القلب وحده؛ فإنَّ ذلك يكون ناقصًا، فإن كان الذكرُ من قِبَل الواجب فإنَّ المكلَّفَ يكون قد تركه حقيقةً، يعني مثلاً: قراءة القرآن من الذكر، لو أنَّه قرأ سورةَ الفاتحة بقلبه، قراءة الفاتحة ركنٌ في الصَّلاة، فمثل هذا لا يُجزئه ذلك، ونقول: عليه أن يأتي بركعةٍ؛ لأنَّه في الواقع ما قرأ، هذا الإنسان الذي قرأ جزءًا من القرآن يقول: أنا قرأتُ وردي من القرآن اليوم، لكن إمرارًا بالعين، دون أن يُحرِّك لسانه وشفته بذلك، كما يقول بعضُ الناس: قراءة قلبية، قراءة بالقلب، أقرأ بقلبي؛ نقول: هذا لا يُجزئك، ولا يكون هذا الإنسانُ قد قرأ، ولا ينطبق عليه ما جاء عن النبيِّ ﷺ من أنَّ كلَّ حرفٍ فيه عشر: لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[4]، فهذا لا يصدق عليه.
المرتبة الثالثة: وهي ذكر الله باللِّسان فقط، دون مُواطأة القلب، وهذا يكون عادةً بالنسبة للمسلمين ممن كان في حالٍ من الغفلة عند الذكر، يعني: المنافق يقول بلسانه، مع قلّة ذكره، ولكن من غير مُواطأة القلب، فالله قال عن المنافقين: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142]، فذكرهم هذا القليل باللِّسان من غير مُواطأة القلب؛ لأنَّ قلوبهم خاليةٌ من ذكر الله -تبارك وتعالى-، ومن الإيمان به.
ولكن هنا بالنسبة للمؤمن قد يقول كثيرًا من الأذكار، وهذا هو الغالب على حالنا، والله المستعان، نقول أذكارًا كثيرةً، بل الإنسان يقرأ أحيانًا السور من القرآن، ثم يُفاجأ أنَّه لم يعقل من ذلك شيئًا، أو يشكّ في بعض الأذكار: هل قالها، أو ما قالها؟ هل قرأ المعوذات ثلاثًا بعد الصبح وبعد المغرب، أو لم يقرأها؟ فهو يحتاج إلى إعادتها مرةً أخرى؛ لأنَّه قد شكَّ، نبدأ بقراءة سورة الكهف مثلاً، نشرع فيها، ثم يجد الإنسانُ نفسَه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [الكهف:32]، طيب هل قرأت قصةَ أصحاب الكهف، وإلا ما قرأتها؟ لا أذكر شيئًا من ذلك، ويشكّ أنه قد قفز هذه الآيات تمامًا؛ فيحتاج إلى أن يرجع من جديدٍ، ما السَّبب؟
اللِّسان كان يتحرَّك، ولو كان بجانبه أحدٌ يسمع قراءته لقال: أنت قرأتَ هذا جميعًا. وهكذا نقرأ في الصَّلاة، ولربما أعاد الواحدُ منا السورةَ نفسَها وهو لم يشعر، يجد الإنسانُ هذا في صلاته، في قراءته في السرية حينما يقرأ في الظهر، أو في العصر، أو حينما يقرأ في النوافل، لربما يقرأ السورةَ الواحدةَ مرتين؛ لأنَّه لا يشعر أنَّه قرأها في الركعة التي قبلها.
فمثل هذا لا شكَّ أنه بسبب الغفلة، فهذا أضعف الذكر: ما كان باللِّسان، لكن لا يُقال بأنَّه لا يُؤجر الإنسانُ عليه، سواء في قراءة القرآن، أو في الأذكار؛ لأنَّ الله لا يُضيع من عمل الإنسان شيئًا، وهذا عملٌ صالحٌ باللِّسان، فيُؤجَر، لكنَّه يكون ناقصًا، وإلا فكما سبق: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، فالله يُجازي عباده ويُحاسبهم بمثاقيل الذَّرِّ، هل يصدق عليه أنَّه قرأ حرفًا من القرآن له به عشر حسنات؟ نقول: فضل الله واسع، لكن إن حصل معه حضورُ القلب فذلك أعظم وأكمل.
ولذلك فإنَّ الله يُضاعف الحسنات إلى سبعمئة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، بأيِّ اعتبارٍ؟ باعتبارات مختلفة، كما ذكرنا في الكلام على تفسير آيات الصيام.
ومن ثَمَّ أقول بأنَّ هذا الإنسانَ يُؤجر على هذا العمل، ولكنَّه يكون أجره ناقصًا، والله تعالى أعلم، فهذا الذاكر باللِّسان يكون لسانُه رطبًا بذكر الله -تبارك وتعالى-، يتحرَّك، وإذا أمكن أن يُسمع نفسَه فهذا حسنٌ، ولكنَّ الإسماعَ لا يجب، ولكن تكفي حركةُ اللِّسان والشَّفتين، ويجري ذلك في الهواء، فهذه هي الدَّرجة الثالثة كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وتلميذه ابن القيم[5].
هذه إحدى مسائله، وفي الليلة القادمة -إن شاء الله تعالى- سنذكر أنواعًا أخرى باعتبار مضامينه؛ مضامين الذِّكْر هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُدَاةً مُهتدين، والله أعلم، وصلَّى اللهُ على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه": كتاب الرقائق، التوبة، برقم (620)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" برقم (619).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التَّعوذ من سُوء القضاء ودرك الشَّقاء وغيره، برقم (2708).
- انظر: "الوابل الصيب" لابن القيّم (89).
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" برقم (2137).
- انظر: "الوابل الصيب" لابن تيمية (88).