الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل ضعفة المسلمين أورد المصنف -رحمه الله-:
وذكر عيسى، وصاحب جريج، كما سيأتي في القصة المعروفة، وكذلك الرجل الفارس الذي مر بامرأة ومعها صبي ترضعه، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك الثدي، وقال: اللهم لا تجعلني مثله.
هؤلاء هم الثلاثة، لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، عيسى، وصاحب جريج، وهذا الغلام الذي ذكرت آنفاً.
وصح عند الإمام أحمد، والحديث أصله في صحيح مسلم لكن من غير هذه الزيادة: في خبر أصحاب الأخدود، وفيه أن امرأة لما جيء بها لتلقي بنفسها في النار، ترددت وتلكأت، وهي تحمل صبيًّا، فقال لها: يا أماه، اصبري، فإنك على الحق.
هذه الزيادة ليست في صحيح مسلم، ولكن الحديث في صحيح مسلم، وهي زيادة ثابتة في مسند الإمام أحمد.
فهذا يكون بهذا الاعتبار رابعًا، فصاروا أربعة.
وهناك أشياء أخرى لا تصح لا تثبت بحال من أن النبي ﷺ تكلم في المهد، وكذلك ورد أن يحيى تكلم في المهد، وأن ابن مبارك من أهل اليمامة تكلم في المهد في زمن النبي ﷺ، وكذلك أيضاً ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ [يوسف:26].
وأوصله بعضهم إلى عشرة، ولكنه لا يثبت في الزيادة على هؤلاء الثلاثة إلا هذا فقط الذي ذكرته عند الإمام أحمد -رحمه الله- وأصله في صحيح مسلم.
وأما شاهد يوسف فلا يصح أنه كان صبيًّا في المهد، بل جاء عن ابن عباس أنه كان رجلاً ذا لحية.
ويحيى لا يثبت أنه تكلم في المهد، ولا النبي ﷺ، ولا ابن ماشطة فرعون.
لكن يبقى السؤال في قول النبي ﷺ: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"، وجاء عن ابن عباس: "تكلم في المهد أربعة"، ولكنه لا يصح.
فهنا من أهل العلم من قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة أي من بني إسرائيل، والبقية ليسوا من بني إسرائيل، وإذا قلنا: إنه لم يثبت في الزيادة على هؤلاء إلا واحد، وهو الذي قال: يا أماه اصبري فإنك على الحق، فقصة أصحاب الأخدود هؤلاء من بني إسرائيل كما هو معلوم، وكانوا على دين النصرانية، فهذا الجواب فيه إشكال.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، وذلك الغلام لم يكن في المهد، كان صبيًّا صغيراً لا يتكلم مثله، لكنه لم يكن في المهد، وهذا جواب جيد.
وهو أحسن ما ذكر في الجواب عن هذا الإشكال، والله تعالى أعلم.
لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم.. وتعرفون أنه قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّ [مريم: 30، 31] إلى آخره.
قال: وصاحب جريج، ثم ذكر خبره.
يقول: وكان جريج رجلاً عابداً، فاتخذ صومعة، والصومعة المقصود بها: بناء مرتفع محدد من الأعلى يتعبد به، يجعله على صخرة، على جبل، أو نحو ذلك ينعزل به عن الناس، ويتخذه متعبَدًا.
يعني: اجتمع عليّ هذا وهذا، يعني: وفقني للأفضل، هل أجيب أمي أو أستمر في صلاتي؟.
يؤخذ من هذا جملة أمور منها: أن الرجل إذا دعته أمه أو دعاه أبوه في الصلاة هل يجيب، أو لا يجيب؟ من أهل العلم من قال: هذا يدل على أنه يجيب، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن هذا من خبر بني إسرائيل، ولسنا متعبدين بما تعبدوا به إلا ما وافقوا فيه شرعنا، يعني: ما كان عليه بنو إسرائيل شرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ نقول: ما جاء موافقاً لشرعنا، فنحن متعبدون بشرعنا، ومن أهل العلم من يقول: ما لم ترد مخالفته في شرعنا، هو خلاف معروف على كل حال عند الأصوليين والفقهاء -رحمهم الله.
فهذا من خبر بني إسرائيل، ومما أخبر الشارع عنهم، ولهذا أهل العلم اختلفوا: هل يجيب الإنسان أمه وأباه إذا كان في الصلاة؟
من أهل العلم من فرق بين الأم والأب، فقالوا: إن دعته الأم أجاب، وإن دعاه الأب لم يجب؛ لهذا الحديث، وهذا ليس فيه دلالة على أن أباه لو دعاه لم يجبه، ولهذا قالوا: ما قال به إلا مكحول -رحمه الله- من التابعين، فهو قول لا يخلو من إشكال.
ومن أهل العلم من قال: إنه إن دعاه في النافلة أجاب، وفي الفريضة لم يجب، ومنهم من قال: يجيب في النافلة وفي الفريضة إلا إن تضايق الوقت، يعني: ما بقي عليه من وقت الفريضة إلا قليل، تضايق عليه وقتها، فإن قطعها خرج الوقت وهو لم يصلِّ، فلا يجيب.
ولو قيل بالتفريق بين الفريضة والنافلة فهذا لعله أعدل هذه الأقوال مع ملاحظة حال الوالد، إن كان يَعذر أو ما يعذر، فإن كان يعذره إذا علم أنه في صلاة لم يجبه، وإذا كان لا يعذره، ويغضب، أو يعتقد أن هذا من العقوق أو نحو هذا، أو يفسره بتفسيرات فإنه يجيبه، والعلم عند الله ، والمسألة خلافية معروفة، هذه قضية تؤخذ من هذا.
الأمر الثاني: أن يتوقى الإنسان دعوة الوالد، فقد أجاب الله دعوة أم جريج مع أنه معذور.
والأمر الثالث: وهو أن الإنسان ينبغي أن يتجنب الدعاء على أولاده، مع أن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن أم جريج قد ترفقت به في هذا الدعاء، يعني: ما دعت عليه أن يقع في الفاحشة، وإنما أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فوقع له ما وقع.
ومن الفوائد العظيمة التي تؤخذ من هذا هو أن رؤية وجوه أصحاب المنكر عقوبة، فجريج وقع له واقعة، سردها النبي ﷺ في هذا الحديث، كانت نهايتها أنه رأى وجه تلك المرأة البغي من بني إسرائيل التي اتُّهم بها.
وفي بعض الروايات أنه جيء به على دار الزواني، فلما نظر إليهن ضحك، فسألوه مما تضحك، فرأى وجوه المومسات، ولم يقع له ذلك اختياراً، وإنما ببلية ابتُلي بها، وأجاب الله دعاء أمه عليه.
فكيف بالذي يذهب مختاراً ويشتري الدش، وينظر، ويقلب ليلاً، يقلب نظره في وجوه المومسات، أو ينظر إلى الأفلام الإباحية، والمواقع الإباحية في الإنترنت، أو في مجلات، أو ينظر إلى صور عارضات الأزياء، أو غير ذلك من وجوه أهل المنكر والشر والفساد والرذيلة؟.
فالنظر إلى وجوه أهل الباطل عقوبة، ولذلك كان بعض السلف إذا رأى صاحب بدعة أغمض عينيه؛ لأنه يرى أن هذا يؤثر على قلبه.
فأقول: ينبغي أن نتنبه لهذا، كم نجني على قلوبنا، ونفسد هذه القلوب بتصويب النظر إلى ما حرم الله ، هذه امرأة في السوق، وهذه في الشارع، وهذه في قناة، وهذه في مجلة، وهذه في إنترنت، وهذه في بلوتوث، ما الذي يبقى لهذا القلب المشوش المشغول الذي تنتاشه السهام من كل جانب؟.
لعلي أكمل في الليلة القادمة -إن شاء الله تعالى، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها [مريم:16] (4/ 165)، رقم: (3436)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها (4/ 1976)، رقم: (2550).