الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الوصية بالنساء إليكم هذه النماذج من حال السلف الصالح ، وما كانوا عليه من الأخلاق والمشاعر الطيبة الرقيقة مع نسائهم، هذا شريح القاضي المشهور يقول في المسألة التي تحدثنا عنها وأوردنا الأحاديث المتعلقة بها فيما يتصل بضرب النساء، يقول:
رأيتُ رجالاً يضربون نساءهم | فشلّتْ يميني حين أضربُ زينبــا |
أأضربها من غير ذنب أتتْ به | فما العدلُ مني ضربُ من ليس مذنبا |
وزينب شمسٌ والنساء كواكب | إذا طلعتْ لم تُبقِ منهن كوكبــا[1]. |
يعني: زوجته، واسمها زينب، وهذه مشاعره نحو زوجته.
هذه مشاعر جدًّا راقية تجاه زوجته، فأين هذا ممن يقبِّح وهو داخل، ويقبح وهو خارج، ويلقي بالعبارات الجارحة لأخته أو لزوجته أو لبنته أو موليته؟، والإمام أحمد -رحمه الله- ذكر امرأته يوماً فترحم عليها، وقال: مكثنا عشرين سنة ما اختلفنا في كلمة، يقول: ما اختلفنا في كلمة عشرين سنة، يقول من سمع ذلك منه: وما علمنا أحمد تزوج ثالثة[2].
وهذا الزبير بن بكار سئل: منذ كم زوجتك معك؟ قال: لا تسألني، ليستْ ترد القيامة أكثر كِباشاً منها، يقول: ضحيت عنها سبعين كبشاً، من بره ووفائه بها
هذا الزبير بن بكار سئل: منذ كم زوجتك معك؟ قال: لا تسألني، ليستْ ترد القيامة أكثر كِباشاً منها، يقول: ضحيت عنها سبعين كبشاً، من بره ووفائه بها، يقول: ضحيت عنها سبعين كبشاً.
وهذا محمد بن عبيد الله المسبحي يرثي امرأته وهو شاعر أمير يقول:
ألا في سبيل الله قلبٌ تقطعا | وفادحةٌ لم تُبقِ للعين مدمعا |
أصبراً وقد حلّ الثرى مَن أودُّه | فلله همٌّ ما أشد وأوجعــا |
فيا ليتني للموت قُدمت قبلها | وإلا فليت الموتَ أذهبنا معا[3]. |
ومن الناس من يدعو على امرأته في عرفة بالموت، وقد سمعت هذا من بعضهم في عرفة، يدعو عليها أن تموت، الناس يسألون الله الجنة والنجاة من النار، وهذا يدعو على امرأته أن يأخذها الله ، ويريحه منها، هذا فيما يتصل بالوصاة بالنساء، وسيأتي في الباب الذي بعده ما يتعلق بحقوق الرجل على المرأة، وهكذا الشريعة تُعتبر فيها حقوق الناس جميعاً، بكل تجرد من الهوى، ولكن من يحركه هواه لا يرضى إلا بما وافق هذا الهوى، ولذلك تجد الإنسان أحياناً الذي يظلم المرأة، ويسلبها حقها ينزعج حينما يسمع مثل هذه الأشياء، وأيضًا حينما يسمع أحداً يتحدث عن ضرب النساء، إذا كان يضرب امرأته، وينزعج إذا سمع أحداً يتحدث عن أخذ مال المرأة أو ما أشبه ذلك ويغضب، لاسيما إذا كان النساء يسمعون، فهو لا يحتمل سماع هذا؛ لأنه بزعمه يفسد عليه النساء وأن هذا فيه ميل إلى جانب النساء، وإهمال لجانب الرجل، أيضاً بالمقابل المرأة التي عندها هوى إذا سمعت حق الزوج وما أشبه هذا تنزعج، وتقول: تتحدثون عن حقوق الأزواج والرجال وتتركون حقوق النساء.
وهكذا الذي يقصر في تربية أولاده حينما يسمع عن قضايا التربية للأولاد، وحقوق الأولاد، وما يحصل من الآثار السلبية، والجراح العميقة الغائرة في نفوس الأولاد، والأوجاع والأمراض النفسية التي تصيبهم بسبب سوء التربية، هذا الأب ينزعج غاية الانزعاج حينما يسمع ذلك، لاسيما إذا كان الأولاد يسمعون، ويقول: تفسدون علينا الأولاد، تجرِّئون الأولاد علينا، يعني: كأنك تفطنهم لحقوقهم، وهو لا يريد هذا، يريدهم صمًّا عميًا بكمًا، وهذا يحصل.
وهكذا الإنسان الذي عنده هوى في الربا مثلاً إذا سمع أحداً يتحدث عن الربا، أو أنه مغنٍّ من المغنين وحضر خطبة أو محاضرة فسمع الكلام عن هذه القضية ينزعج جدًّا، فالأهواء تحرك كثيراً من النفوس، فيحتاج الإنسان أن يتجرد، وأن يدور مع أمر الله حيث دار بصرف النظر عن هواه، فإذا أدرك أن عنده شيئًا من النقص فإنه بهذا يستدرك ويراجع نفسه، ويأسى على تقصيره، ويتفطن، هذا طالب الحق، وأما الذي لا يريد الحق فإنه لا يزيده ذلك إلا إمعاناً في المكابرة، إمّا أن يقول: أنا لست كذلك، وإما أن يقول: هذا الحديث يفسد علينا ويجرِّئ علينا الزوجات، يجرئ علينا الأولاد، وقد كتب لي أحدهم مرة رسالة بهذا، يقول: هذا الكلام إذا سمعه سامع سيجترئ عليه النساء ويجترئ عليه أولاده، لماذا إذا بُيّن لك أن هؤلاء لهم حقوق، وأنه لا يجوز ظلمهم؟، فهذا من العجائب والغرائب.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ويجعلنا جميعاً هداة مهتدين، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (4/ 106)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (23/ 53)، ووفيات الأعيان (2/ 462)، والوافي بالوفيات (16/ 83).
- سير أعلام النبلاء (11/ 332).
- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (6/ 2568).