- مقدمة باب بر الوالدين
- قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...}
- قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}
- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}
- قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}
- قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
- قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد وهو باب بر الوالدين وصلة الأرحام.
والبر: اسم جامع يشمل صنوف الخير، وإيصال المعروف والإحسان القولي والعملي، إضافة إلى ما يقوم بالقلب من المشاعر الطيبة تجاه الوالدين، مع ما يسديه الإنسان من الإحسان بماله، والمواساة إذا كان الوالد أو الوالدة في حاجة، والوالدان يشمل كل أب أو أم وإن علا، فالجد والد، والجدة والدة، وهكذا، ونحن مأمورون ببر الجميع.
قال: وصلة الأرحام، والأرحام: كل من تربطنا معهم وشيجة وقرابة من جهة الوالدين، فالإخوة من الأرحام، والأعمام من الأرحام، وهكذا، فهؤلاء كلهم يرتبطون بنا من جهة الوالد أو الوالدة، كالخال والخالة ونحو ذلك، وصلتهم تكون بزيارتهم، وتعهدهم، والإحسان إليهم بالمال إن كانوا يحتاجون، والإحسان إليهم بألوان المعروف والكلام الطيب، وما أشبه ذلك.
يقول: قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء: 36]، أمر الله بحقه أولاً بعبادته وحده لا شريك له، فالله هو صاحب الفضل، فهو الخالق المتفضل بالإحسان على عباده، وبالوالدين إحساناً يعني: أحسِنوا إحساناً، فهذا يشمل جميع أنواع الإحسان التي يمكن أن يتصورها الإنسان، فلم يخصص نوعاً بعينه، فنحن مأمورون بأن نحسن إلى الوالدين حينما نخاطب الوالد أو الوالدة، فيخفض الإنسان صوته، وكذلك أيضاً الإحسان إليهما بانتقاء العبارات الطيبة، وكذلك أيضاً بإدخال السرور على نفسيهما، فلا يكون الإنسان سبباً لإتعاسهما وإشقائهما وإدخال الحزن إلى قلبيهما، إضافة أيضاً إلى الإحسان في الخلطة والمعاشرة، فلا يكون ذلك على سبيل المخاشنة وإنما في غاية الرفق، ولهذا قال : واخفض لهما جناح الذل أي: واخفض لهما جناحك الذليل، تواضعْ، وتذلل للوالدين فإن ذلك من الكمالات وليس نقصاً، وثلَّثَ بالقرابات فقال: وبذي القربى؛ لأن هؤلاء يأتون بعد الوالدين، فهم يرتبطون بك بسبب الوالدين من جهة الأب أو من جهة الأم، فهؤلاء دائرة قريبة، هم أولى بإحسانك وبرك ولطفك ومعروفك، وهكذا الشريعة جاءت بحفظ الحقوق والوشائج، والصلات في الأسرة الواحدة، ومن ثم أيضاً يتسع ذلك حتى يكون في سائر أفراد المجتمع، كما ذكرنا من قبل في الكلام على الجار وحقوق الجار، وما جاء فيه من الحث، فهنا قال: وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ، بعد القرابات ذكر الضعفاء في المجتمع، اليتامى، الولد الذي مات أبوه قبل البلوغ، فهذا منكسر القلب، مَهِيض الجناح، يشعر بالضعف والانكسار، فهو بحاجة إلى من يقوي قلبه، ومن يحسن إليه، ومن يحفظ حقه، فلا يُترك هذا الصغير يضيع في المجتمع، يستغله ويبتزه كل من لا يخاف الله ، قال: "والمساكين" أيضاً، فهؤلاء لشدة فقرهم أصابتهم المسكنة، فهم لا يجدون ما يدفعون به حاجتهم، فهم بحاجة إلى التفاتة، إلى رعاية، إلى من يعينهم ويقف معهم، قال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ، وسبق الكلام على هذا، قلنا: إن الجار الأول الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى هو الجار الذي له حق الجوار وحق القرابة، وَالْجَارِ الْجُنُبِ هو الذي ليس بيننا وبينه قرابة، ولكن له حق الجوار، وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ من يشترك معنا في عمل، أو رافقنا في سفر، أو في صناعة ومهنة ونحو ذلك، وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي انقطع في سفره فهو غريب محتاج، يحتاج إلى أن يرجع إلى أهله، قال: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ من الإماء والأرقاء، فهؤلاء من المساكين الضعفاء الذين أوصى الإسلام بالعناية بهم، وأن لا يُحمَّلون ما لا يطيقون، وأن يلبسهم الإنسان مما يلبس، وأن يطعمهم مما يطعم، وما أشبه ذلك.
قال: وقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، اتقوا الله: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه، الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ تساءلون به كما يقول الواحد منهم: سألتك بالله، أسألك بالله، ونحو ذلك، وَالْأَرْحَامَ يعني: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، والله يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [محمد:22-23].
قال: وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [الرعد:21]، من الرحم، القرابة.
وقال: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8] يعني: كما سبق في آية النساء، وكذلك في آية الإسراء.
قال: وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، قضى بمعنى وصّى وأمر وحكم، كل هذه المعاني، والوصية بمعنى الأمر والنهي في الشيء الذي يكون مؤكداً، مع شيء من الحث، قال: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا.
تكلمنا على هذا في بعض المناسبات أن الله خص حالة الكبر؛ لأن الوالدين في حالة الكبر يحتاجان إلى مزيد من الرعاية، والحنو، وذلك أن الإنسان إذا كبرت سنه ورق عظمه فهو بحاجة إلى رعاية، ولربما كثرت سؤالاته عن أمور لا تعنيه، فلربما هذا أثّر ضجراً لدى الولد، وكذلك أيضاً الإنسان الكبير لربما يصل به الأمر إلى أن يحتاج أن يلي منه الولد ما كان يلي هو من ولده في حال الصغر، وإلا فالبر مطلوب سواء كان الوالد كبيراً أو صغيراً.
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، بمعنى: أن الإنسان قد يستسهل القيام بحق الوالدين إذا كان أحدهما على قيد الحياة دون الآخر، فبيّن الله أن حق كل واحد منهما ثابت على سبيل الاستقلال، وقد يحصل من الولد البر لأحد الأبوين قياماً بحق الآخر، برًّا بالآخر، يعني: هو قد لا يحب أحد الوالدين ولكن لأن أحدهما يأمره ببر الآخر يقوم به، والله يقول: أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، بمعنى: أن حق كل واحد منهما ثابت على سبيل الاستقلال.
فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ، أف: كلمة تدل على التضجر، وهي أقل ما يتصور من الإساءة، فما سواها ما هو أعلى منها من الشتم أو الضرب أو نحو ذلك من باب أولى، فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا يعني: النهر هو الزجر بالقول، وأن يأتي بالكلام بطريقة فيها شدة حينما يعبر عن مراده، هذا هو النهر، الزجر بالقول وإن كانت العبارات في أصلها طيبة وجميلة، لكنه يؤديها بطريقة عنيفة، قال: وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا يعني: الإنسان قد لا يزجرهما ولا يغلظ عليهما في القول ولكنه يبقى صامتاً، لا يتكلم، ولا يدخل الأنس على الوالدين، فهذا ممنوع، وإنما هو مطالب بأن يقول لهما القول الكريم الذي ينتقي فيه العبارة، ويؤديه بأسلوب لطيف، ويحمل معانيَ طيبة، ثم قال: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] اخفض لهما جناحك الذليل، يعني: تواضعْ للوالدين، تذللْ، مِنَ الرَّحْمَةِ، ما يكون هذا التذلل خوفاً من سطوة الوالد مثلاً، أو طمعاً في شيء يمنحه إياه، فيتصنع له بهذا، فيكون ذلك لغير الله ، أو يفعل ذلك رياءً أمام الناس، وإنما يكون ذلك ناتجاً من الرحمة، ولا يكتفي بهذا بل يدعو لهما أيضاً؛ ليدل على وثوق البر في نفسه، وتجذره في قلبه، وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، ارحمهما رحمة محققة ثابتة كما أن تربيتهما في حال الصغر كانت كذلك.
قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] أي: شدة على شدة، وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ يعني: الفطام في سنتين، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ، هكذا يعلمنا القرآن رد الجميل، والفضل والإحسان إلى أصحاب الفضل والجميل، ولا يشكر اللهَ من لا يشكر الناسَ، كما ثبت عن النبي ﷺ[1].
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم البر وحسن الخلق، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس، (7/ 188)، برقم: (4811)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1122)، برقم: (6601)، عن أبي هريرة ، بلفظ: لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس.