الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب بر الوالدين وصلة الأرحام:
قوله: لا يجزي ولد والدًا يعني: لا يكافئ، الوالد متفضل وصاحب معروف وإحسان للولد، ومهما فعل الولد لو أنفق عليه ما أنفق من الأموال، ولو أنه حمل والده وذهب به وطاف به المناسك، وحج به على أقدامه، وهو على ظهره فإنه لا يكافئ حقه ولا يجزيه في مقابل ما صنع، الوالد هو سبب وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وهو أيضاً يقوم بتربيته وتنشئته، التربية بنوعيها:
تربية البدن بما يغذيه به، فالأب ينفق ويكتسب، ويطلب الرزق من أجل هؤلاء الأولاد، ومن المعروف كما يقال: إن المرأة تكون قلقة عادة قبل الزواج، وإذا تزوجت كانت أكثر طمأنينة، هي تقلق قبل الزواج، هل ستتزوج أو لا، ومن ذا الذي سيتزوجها، فإذا تزوجت ذهب ذلك الهاجس والشاغل الذي يشغلها، أما الرجل فإن قلقه يزداد بعد الزواج، كان من قبل هو أمير نفسه، فإذا تزوج صار عنده مسئولية المرأة، وصار عنده مسئولية الأولاد، ولذلك من المعروف أن الرجل يقل إنفاقه ويحاسب أكثر بعد الزواج؛ لأنه يحسب حسابات هؤلاء الأولاد، لا يحتاجون لأحد، لا يفتقرون، لا ينظرون إلى الآخرين بأيديهم شيء وهم ليس في أيديهم، يلبسون دونهم، يركبون دونهم، يسكنون دونهم، فتجد أنه يجمع ويجتهد ولربما يتغرب ويسافر، كل هذا من أجل هؤلاء الأولاد، ولو كان برأسه هو لربما سد جوعته بكسرة من الخبز، ولا يبالي، فالمقصود أنه يربيه بما يغذيه به في بدنه، تربية الأبدان.
وتربية النفوس والأرواح، إذا كان الأب مهتدياً يعلمه منذ نشأته، يربيه على معرفة الله ، وتوحيده والإيمان به، ومحبته وتعظيمه والخوف منه، والعمل بطاعته واجتناب معصيته، فهو الذي ينشئه في الكمالات ويعلمه المروءات، فينقله من طور إلى طور، حتى يشتد ساعده، ثم ينطلق في الحياة، فهو لا يتوقف شغله -أعني: الأب- عند هذا الحد، بل يكون مشغولاً بهم وهم صغار، وينشغل بهم أيضاً وهم كبار حتى يزوجهم، وإذا كانوا يدرسون فكأنه يدرس معهم، مشغول بهم، بدراستهم واختباراتهم ومشكلاتهم، ثم بعد ذلك إذا تزوجوا هل استقرت حياتهم أو لا، ولاسيما البنات، شغل شاغل.
ولهذا قال النبي ﷺ عن الولد: مجبنة[2] أي: سبب لجعل هذا الأب يجبن عن كثير من الأمور، يتخوف لما له من الأولاد، مجبنة مبخلة يبخل من أجل الأولاد، مَحزنة يعني: مجلبة للحزن، فإذا مرضوا تمنى أن المرض فيه، ويحزن لمرضهم ويضيق صدره، فهذه مشاعر الأب، ولا يعرفها إلا من كان له أولاد، ومهما قيل في وصف هذا المعنى فإنه لا يمكن أن يتوصل إليه إلا بوجود الأولاد، أمران لا يمكن الوصول إليهما إلا بأن يجرب الإنسان ويعرف: معرفة مشاعر الوالد تجاه الولد، هذه ما يمكن أن يعرفها الإنسان بالوصف، إلا أن يجرب ويأتيه أولاد.
والثاني: المودة التي ذكرها الله : وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] بين الزوجين، هذه مهما قيل في وصفها لا يتصورها الإنسان إلا إذا تزوج.
أقول: الوالد أيضاً يشقى مع أولاد الولد، ويهتم بهم، وإذا مرضوا شغل بهم؛ لأنهم من جملة أولاده، فلا يتوقف عند الأولاد نقول: حتى يرتفع الواحد منهم ويكبر، ثم بعد ذلك يتصرف في شئونه، لا، حتى إذا صار كبيراً، حتى إذا جاءه أولاد انشغل بأولاده، وهكذا، ثم بعد ذلك تبدأ هذه العافية والقوة والنشاط بالذبول، ما الذياستنزفه؟ الجواب: السعي على هؤلاء الأولاد، والهموم التي تعتريه حيناً بعد حين حتى يذبل، ثم بعد ذلك يكون في غاية الضعف وهؤلاء يكونون في غاية القوة، فالله أمر برد الجميل، ولهذا لا يمكن للإنسان أن يصل إلى رد الجميل إلا بحالة واحدة هي التي ذكرها النبي ﷺ، أن يكون الأب كالمتاع يباع ويشترى، مثل الفرس، ومثل الجمل، ومثل السيارة تباع وتشترى، إذا كان رقيقاً مملوكاً، يباع ويشترى، مسلوب الحرية، يتصرف به غيره تصرفاً كاملاً، ولا يملك قليلاً ولا كثيراً؛ لأن كل ما يملك العبد فهو لسيده، فإذا جاء ولده فأعتقه يكون قد كافأه حقه، هذه فقط، ومعنى لا يجزي ولد والدًا معناها أنه مهما بذل، لو كان يقف على قدميه على رأس أبيه أو أمه في حال الصحة والمرض، ما يجلس ولا ينام إلى الفجر كل يوم فإنه لا يبلغ حقه، ومهما يقال: لو أنه لا يجعل والده أو والدته تمشي على الأرض، لو كان يحملهما، لا يمشون على الأرض من شدة الرأفة واللطف والرحمة لا يبلغ حقهما إلا في هذه الحالة.
ولذلك نقول: إن مسألة البر هي مسألة نسبية، قد يكون الإنسان بارًّا، لكن هذا البر بمعنى أنه يتعاهدهما بالزيارة والكلام الطيب، والاتصال، والمشاعر الطيبة، لكن هناك درجات أعلى من البر، الثلاثة الذين حبستهم الصخرة ذكر أحدهم أنه تقرب إلى لله بصالح عمله، وهو أنه جاء بالغبوق -اللبن- الذي حلبه في آخر النهار، فوجد أبويه قد ناما، وكان لا يقدِّم عليهما أحداً، وأولاده يتضاغون من الجوع، فبقي واقفاً إلى أن استيقظا، ما أيقظهما من أجل أن لا يزعجهما، بقي واقفًا، طيب ما جلس؟ ما جلس، طيب والأولاد أعطِهم نصيبهم وللوالدين نصيبهم، ضعه للوالدين وغطِّه وهم سيريانه إذا استيقظا، لا، بقي واقفًا والأولاد يتضاغون حتى أصبح، هذه درجة عالية من البر[3].
من الناس من يقول: حق الوالدين محفوظ وأتركه لهما، وأعطي الأولاد حقهم لا يبيتون طاوين من الجوع، فالبر يتفاوت.
وكان السلف كابن سيرين إذا كلم أمه فإنه كالمتضرع، كالضارع، وكان من لا يعرفه يظن أنه مريض وهو يكلم أمه، وكان لا يأكل معها، وهو شديد البر بها، فلما سئل عن هذا قال: أخشى أن تسبق عينها إلى شيء فتمتد إليه يدي دون أن أشعر، تكون تريد شيئًا معينًا من الطعام ولا أدري فآخذه قبلها، هذه درجة عالية من البر، مع أن الأكل مع الوالدين قد يكون أيضاً من البر للملاطفة والمباسطة وما أشبه ذلك، فالبر درجات، والكمال على مراتب.
فالشاهد قال: إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه، بمعنى أنه معلوم أنه في الأصول والفروع بمجرد التملك يحصل العتق شرعاً، يعني: لو أن أحداً اشترى والده بمجرد شرائه له الوالد يعتق مباشرة، لا يحتاج أن يقول الولد: أنت حر لوجه الله يا أبي، لا، بمجرد الشراء يحصل العتق، وكذلك أيضاً وإن علا -الأجداد، وكذلك وإن نزل من الفروع، لو اشترى أب ولده، وجده يباع في السوق فاشتراه فإنه بمجرد الشراء يعتق، وخلاف أهل العلم في غيرهم كالإخوة والأخوات، وأيضاً سائر الأرحام، فالمشهور الذي عليه الجمهور أن الوالد والولد بمجرد الشراء يحصل العتق، فيكون المراد هنا: إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه: يعني: يشتريه، فإذا اشتراه عتق، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، (2/ 1148)، برقم: (1510).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الأدب، باب بر الوالد، والإحسان إلى البنات (2/ 1209)، رقم: (3666).
- أخرجه البخاري، كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيرا فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد، أو من عمل في مال غيره فاستفضل، (3/ 91)، برقم: (2272) ومسلم، كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال (4/ 2099)، برقم: (2743).