الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله-:
فقوله ﷺ رغم أنف هذا يشبه أن يكون دعاءً عليه بذلك، أي: بالذل والصغار والمهانة؛ لأن هذه العبارة يكنى بها عن هذا المعنى، وأصلها حينما يقال: رغم أنفه أي: صار أنفه في الرغام، والرغام: هو التراب، والإنسان يشمخ بأنفه، يعبّر بذلك عن الارتفاع والعلو والعزة وما أشبه ذلك، يقال: شمخ بأنفه، فإذا كان أنفه في التراب فإن ذلك يعني: الذل والمهانة والصغار.
فالنبي ﷺ في هذا الحديث كأنه يدعو عليه بذلك، ويمكن أن يكون هذا من قبيل الإخبار أيضاً، رغم أنفه يعني: بمعنى أنه يكون ذليلاً صاغراً.
من أدرك أبويه عند الكبر أحدُهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة، وذلك أن الوالد أوسط أبواب الجنة، كما صح عن النبي ﷺ[2].
وإذا كان الوالد في حال الكبر فهذا باب واسع للإنسان من أجل مزيد من التقرب إلى الله بهذه الطاعات التي هي من أجل الطاعات وأفضل القربات، فحاجات هذا الوالد الكبير كثيرة، وكلما كان الأمر أشق كلما كان الأجر فيه أعظم من جهة الغالب، أو الجنس، أو من جهة العموم، وإن لم يكن ذلك مطرداً في كل الجزئيات، لكن الأجر على قدر المشقة، بحيث إن الإنسان لا يقصد المشقة ولا يطلبها، ولكنها المشقات العارضة التي لا يمكن التخلص منها دون أن يتطلبها المكلف، كما قال النبي ﷺ لعائشة -رضي الله تعالى عنها: إن أجرك على قدر نصَبك[3] يعني: في الحج، فالوالد الكبير يحتاج إلى مزيد من الجهد في البر أكثر من الوالد الشاب، لربما يكون الوالد أقوى من الولد في فترة شبابه وقوته، ولا يحتاج إلى الولد في شيء من الأشياء، إنما هو طِيب المعشر والكلام الحسن، والتأدب في العبارة، والاستئذان، والوقوف عند أمره وترك ما يسخطه فحسب، لكن والده لا يفتقر إليه بشيء بل هو مسدد لجميع حاجات الولد، هو الذي يرعاه، لكن إذا كان الوالد كبيراً يحتاج إلى من يقوم عليه، فلربما تكثر مواعيده في المستشفى فيرتبط الولد، يترك كثيراً من مصالحه بسبب ذلك، يتعطل من أشغاله، لربما تعطل من دراسته، لربما قام ساعات وساعات من الليل يتعاهده؛ لأن هذا الوالد لا يُترك، كبير مريض يحتاج إلى تعاهد بالدواء، يحتاج هذا الوالد لربما إلى تعاهد أيضاً حتى في حاجاته الخاصة، يحتاج إلى تعاهد أيضاً في أكله وفي عبادته، وفي كل شأن من شئونه، بل يحتاج إلى شيء من المباسطة في الحديث، فالكبير يضجر كأنه في سجن -لكن الإنسان قد لا يشعر بهذا، فليست المسألة ساعة أو ساعتين، ويومًا أو يومين، من أجل أن يقال: والله زاره فلان وجلس معه فلان، القضية تستمر سنين، وهذا الأب إذا زاره فلان وفلان يوماً أو يومين سيبقى مددًا طويلة جداً، سنوات، لربما كان منسيًّا، ولربما نسيه أولاده وهم معه في بيته، لا يجلسون معه، لا يتحدثون معه، بحجة أنهم في أشغالهم، وهذا الأب موفَّر له كل ما يحتاج إليه بزعمهم، والواقع أنه يشعر أنه في كل يوم يموت عدة مرات، ويسأم تكاليف الحياة، الأيام تكون طويلة جداً بالنسبة إليه، ولربما من كثرة جلوسه في بيته وهو لا يتحرك كما هو معروف فإن الإنسان إذا كان بهذه المثابة يكون عنده شيء من الإشباع الكثير من جهة الراحة فلا ينام، لا يأتيه النوم، يصابح الصبح وهو ينظر ببطء إلى عقارب الساعة تتحرك ببطء شديد.
أنت أيها الشاب لربما بمجرد ما تضع رأسك على الوسادة تنام، وتستيقظ بصعوبة لربما لصلاة الفجر، ولا تشعر بالليل إلا كأنه لحظة، بينما من جرب وعرف وأصيب بالأرق، أو بمرض يسهره، أو نحو ذلك فإنه لا يأتيه الصبح إلا وقد كادت أن تخرج روحه، فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يشعر بها، يحتاج أن تكون عنده مشاعر حية من أجل أن يشعر بمشاعر أبويه، هذا الأب أحياناً قد لا ينام؛ لأن الكبير يكون حساساً أكثر من الشاب القوي، فقد يقول لك كلمة أو لأخيك أو نحو ذلك فيبدأ يحسبها، لربما أغضبته، لربما جرحته، فيبدأ يشعر بالخوف أنه وقع في نفسك شيء بسبب ذلك فلا ينام تلك الليلة، أو لربما وقع في نفسه شيء بسبب ما سمعه منك أو من أحد من الناس فيبقى يتقلب ليلة بسبب هذا، وهكذا الكبير يحتاج إلى مزيد من الرعاية، ولهذا قال النبي ﷺ لما عظمت المشقة: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة، هذا سبيل لدخول الجنة، وهذه غنيمة عظيمة جدًّا، وهي من أعظم ما يُزدرع للآخرة.
فعلى الإنسان أن يستغلها، لا أن يشعر أن هذا الوالد لربما يكون عبئاً وشغلاً شاغلاً يشغله ويقطعه عن حاجاته ومصالحه، هذه أعظم الحاجات والمصالح، هذا أفضل لك من قيام الليل وصيام النهار، تسهر عنده تجلس معه ساعة تباسطه فيها أفضل لك عند الله -عز وجل- من قضاء هذه الساعة في ركعات تركعها، فالوالد حقه عظيم، ونحن حينما نمضي الساعات الطوال مع من نأنس معهم من أصحابنا قد لا نشعر بالوقت، ومن الناس للأسف من اعتاد أن يسهر في كل ليلة طول السنة، يجلسون في استراحة، أو في شقة قد استأجروها ونحوه، ولا يأتي إلا في ساعة متأخرة، ولا يشعر بالوقت، وإذا قضى مع أبيه الكبير أو مع أمه ساعة أو نصف ساعة كأنه على مَلَّة، ولربما قضاها وأشغلها بالنظر في صحف أو يكلم بالهاتف، بزعمه أنه يريد أن يستغل الوقت.
فأين المباسطة؟، فأين المحادثة؟، وأين أطايب الكلام؟، هذه أمور نغفل عنها كثيراً، وقد يذهب هذا الوالد أو تذهب هذه الوالدة، ثم بعد ذلك يتندم الإنسان ويفوته هذا الباب من أبواب الجنة، فيكون كما قال النبي ﷺ: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، ثلاث مرات للتأكيد.
فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم البر، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا وذرارينا، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر، فلم يدخل الجنة، (4/ 1978)، برقم: (2551).
- أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين (4/ 311)، رقم: (1900)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته (1/ 675)، رقم: (2089).
- انظر: صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه، (2/ 876)، برقم: (1211).