الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله-:
أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري الخزرجي النجّاري، وهو الذي نزل عنده النبي ﷺ أشهراً حينما قدم المدينة، حتى بنيت حجرات أزواجه.
وكان أبو أيوب من بني النجار وهم خُئولة النبي ﷺ، وقد شهد بدراً والعقبة قبلها، وأحداً، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد، وروى عن النبي ﷺ ما يزيد على مائة وخمسين حديثاً، وقد اتفق الشيخان على نحو سبعة منها، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بواحد، وكانت وفاته في حدود سنة خمسين من الهجرة، وذلك في القسطنطينية، أو عند أسوار القسطنطينية.
"أن رجلاً قال: يا رسول الله..."[1]، جاء في بعض الروايات أن السائل هو أبو أيوب ، فالراوي قد يخفي نفسه، لسبب أو لآخر، وهذا لا إشكال فيه.
وجاء في حديث آخر لأبي هريرة أن أعرابيًّا سأل النبي ﷺ[2]، قيل: هو ابن المنتفق، وهذا أمر قد يحصل ويتكرر؛ لأن هذا السؤال الذي سأله هو من أجلّ المطالب.
"دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار"، فهذا هو المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، وهو الفلاح الذي يطلبه كل أحد، أن يدخل الجنة وأن يباعد من النار، وهذا يدل على حرص الصحابة على المطالب العالية، وعلى تعلق نفوسهم بما عند الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، فمن سأل شيئاً فإنما يسأل عما يتعلق اهتمامه به، وتتْبعه نفسُه.
ومعلوم أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله، كما أخبر النبي ﷺ، وإنما تكون الأعمال سبباً لدخول الجنة، وإنما يدخلها الإنسان برحمة الله .
قال: "ويباعدني من النار"، أي: يكون سبباً في المباعدة من النار، فقال النبي ﷺ: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، هذا هو التوحيد الذي هو أصل العمل، وهو أول مطلوب، وهو آخر ما يخرج به من الدنيا، وهو مفتاح الجنة، وهو الشرط الأعظم والأكبر في قبول الأعمال، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، فمن عبد الله وعبد معه غيره فإن ذلك غير نافعه.
قال: وتقيم الصلاة، ما قال: تؤدي الصلاة، وجميع المواضع في القرآن لم يذكر فيها أداء الصلاة، وإنما يذكر فيها الإقامة، وذلك أن يأتي الإنسان بها مستوفياً لشروطها وأركانها وواجباتها، فهذه هي حقيقة الإقامة، أن يأتي الإنسان بما تتطلبه هذه الصلاة، وعلى قدر ما يحقق من ذلك على قدر ما يكون له من هذا الاتصاف، من إقامتها، ولذلك لما ذكر الله الصلاة وأثرها قال: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت:45].
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ، هذا أمر بإقامتها، ثم بعد ذلك "إِنَّ" هنا تفيد التعليل، يعني: أن هذه الصلاة المقامة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبهذا الاعتبار تكون صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر على قدر ما يكون من إقامتها، فإذا أقمناها إقامة كما ينبغي على الوجه الأكمل كان نهيها عن الفحشاء والمنكر على الوجه الأكمل، وأما إذا دخل الإنسان لا يدري كيف دخل، وخرج منها ولا يدري ماذا قرأ، وماذا قرأ الإمام فإن مثل هذا لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر.
قال: وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ذكر هذين الأمرين، ولا شك أن أبا أيوب إنما كان في المدينة، فهذا لم يكن بمكة قبل تشريع كثير من الشرائع.
قال: وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، يمكن أن يكون النبي ﷺ اقتصر على هذين الأمرين باعتبار أنهما يمثلان القمة والأهم بالنسبة لسائر شرائع الدين.
فالصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، فذكر له هذا وهذا، وهذا كثير في النصوص، الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ويحتمل أن يكون هذا قبل فرض الصوم، وقبل فرض الحج، ربما يكون كذلك، الصلاة فرضت بمكة، والزكاة الراجح أن أصلها فرض بمكة، وأن الأنصباء قد كانت في المدينة، يحتمل هذا، ويحتمل أنه روعي به حال الإنسان السائل أنه قد لا يكون من أهل الصيام أو نحو هذا.
قال: وتصل الرحم، وهذا هو الشاهد، يعني: ذكر صلة الرحم مع هذه المطالب العالية الثلاثة العظيمة، التي هي أصول وأركان الإسلام، يضاف إليها الحج والصيام، فذكرها مع أعظم الأركان، ولا شك أن هذه الثلاثة هي الأعظم، وهي التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فذكر معها صلة الرحم.
وهذا يدل على أن صلة الرحم ليست ذوقاً أو خلقاً تكميليًّا يمكن أن يتصف به الإنسان، أو يتفضل به، أو يتجمل به إن شاء، وإنما هو أصل عظيم قد تتوقف نجاة الإنسان عليه.
ولهذا قال النبي ﷺ: لا يدخل الجنة قاطع رحم، لا يدخلها، ليس معنى ذلك أنه يخلد في النار، وإنما ينقّى ويصفّى فإن الجنة دار الطيبين، حتى يطيب، مثل الذهب يعرض على النار فيذهب شائبه ثم بعد ذلك يبقى خالصه، قال: وتصل الرحم.
هذا، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة (1/ 43)، رقم: (13).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (2/ 105)، رقم: (1397).