الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب بر الوالدين وصلة الأرحام:
الخالة بمنزلة الأم قاله النبي ﷺ في عمرة القضاء، وذلك أن النبي ﷺ حينما قصد مكة في السنة السادسة من الهجرة وصده المشركون عنها، ووقع ما وقع من الصلح المعروف، صلح الحديبية، وكان مما حصل في ذلك الصلح والاتفاق: أن النبي ﷺ يرجع ومن معه، ثم يأتي من العام الذي بعده ليعتمر، فلما جاء ﷺ تبعته ابنة حمزة ، فأخذها علي بن أبي طالب ودفعها إلى زوجته فاطمة -رضي الله تعالى عنها، وقال: دونك ابنة عمك، فتنازع فيها علي وزيد بن حارثة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن أبي طالب، فالنبي ﷺ قال في هذه المناسبة: الخالة بمنزلة الأم يعني: أنه دفعها لجعفر؛ لأنه زوج خالتها، والشاهد من هذا الحديث في هذا الباب أن النبي ﷺ جعل الخالة بمنزلة الأم، والكلام في صلة الأرحام وفي بر الوالدين، وهذا يدل على أن الخالة لها منزلة قريبة من منزلة الأم تستدعي البر، والقيام بمزيد من الحق والرعاية والصلة والإحسان إليها، فهي ليست مثلاً كالعمة، وإنما هي بمنزلة الأم، هذا هو الشاهد، والأم تعرفون ما جاء فيها من فضل، ومر في ذلك أحاديث.
ثم قال المصنف -رحمه الله: وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة، منها حديث أصحاب الغار، وقد مضى، وفيه مما يتصل بباب بر الوالدين الرجل الذي جاء ومعه غبوقه، يعني: الحليب الذي يحلب في آخر النهار، وكان لا يَطعم منه أحد لا زوجة ولا ولد حتى يشرب منه أبواه، فوجدهما قد ناما، فبقي منتظراً حتى الصباح، وأولاده يتضاغون من الجوع، فكان هذا سبباً لانفراج جزء من الصخرة، في الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار[2].
قال: وحديث جرير وقد سبق، مضى حديث جرير الراهب حينما نادته أمه وهو يصلي فقال: ربِّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فدعته ثلاث مرات، فبعد ذلك دعت عليه أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات[3].
وقال: وأحاديث مشهورة في الصحيح حذفتها اختصاراً، ومن أهمها حديث عمرو بن عبسة الطويل، المشتمل على جمل كثيرة من قواعد الإسلام وآدابه، وسأذكره بتمامه -إن شاء الله تعالى- في باب الرجاء، قال فيه: دخلت على النبي ﷺ بمكة، يعني: في أول النبوة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أرسلني الله تعالى، فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: لقد أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله لا يُشرَك به شيء[4]، وذكر تمام الحديث.
والشاهد في هذا الحديث أرسلني بصلة الأرحام، فكان ذلك أول ما ذكر ﷺ فيما أرسله به ربه، فدّل ذلك على أن صلة الرحم من مقاصد رسالته ﷺ، فهي ليست قضية سهلة، فمن أعظم دلائل ذلك أن هذا الحديث مصرح بهذا المعنى غاية التصريح.
ولذلك أقول: نحن في هذه الأحاديث التي مضت فيما يتصل بصلة الأرحام وبر الوالدين قرأنا ما يقرب من أربعة وعشرين حديثاً، فينبغي للعاقل أن ينظر ماذا أثرت فيه، هل تغير بره وصلته وإحسانه؟، هل تغيرت برامجنا؟، هل تغيرت تعاملاتنا؟، هل تغيرت زياراتنا لقراباتنا؟، هل زادت اتصالاتنا؟، هل تعاهدناهم؟ أو أن الأمر لم يتغير وكأننا لم نسمع شيئاً، فهذه مشكلة، نحن نسمع كثيراً ولكن ينبغي أن نطبق، وأن ينعكس ذلك على واقعنا وحياتنا، نحضر في العام نحواً من ثمانٍ وأربعين خطبة ثم بعد ذلك ماذا تؤثر فينا هذه الخطب، إضافة إلى الدروس والمحاضرات والكلمات التي نسمعها في كل يوم، فليست القضية لمجرد الثقافة، فالله سائلنا عما نسمع، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
فأسأل الله أن يلطف بنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ومن دلائل ذلك أن يظهر هذا على أعمالنا وجوارحنا، وتصرفاتنا جميعاً، هذا الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، (5/ 141)، برقم: (4251).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي، (3/ 80)، برقم: (2215)، ومسلم، كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال، (4/ 2099)، برقم: (2743).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، (4/ 1977)، برقم: (2550).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، (1/ 569)، برقم: (832).