- مقدمة باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم
- قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا...}
- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...}
- قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد من هذا الكتاب المبارك، وهو باب "تحريم العقوق وقطيعة الرحم"، وهو مكمل للباب الذي قبله، وكعادة المصنف -رحمه الله- يصدر هذه الأبواب بجملة من الآيات يقول:
قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22] إلى آخره.
قبل أن نتحدث عن هذه الآيات والأحاديث نبيّن المراد بالعقوق، وقد تكلمنا قبلُ عن البر، وما يُطلب فيه، فالعقوق العلماء -رحمهم الله- تكلموا في ضابطه، ولم يتفقوا على قدر أو على حد محدود، وحينما يقولون: العقوق من الكبائر -وهذا لا شك فيه كما سيأتي في بعض الأحاديث- يبقى النظر في الحد الذي يكون فيه كبيرة، فالعقوق من أهل العلم من يقول: إنه كل تصرف يتسبب في تأذي الوالدين، ما يتأذيان به من هذا الولد بغير حق فهو عقوق، ومن أهل العلم من يقول: إذا أمره الوالدان بأمر مباح أو أمر طاعة ولم يستجب فإن ذلك يكون من العقوق، يعني بخلاف ما إذا أمره بمعصية، ولكن هذا يحتاج إلى ضبط؛ لأن الوالد قد يأمره بشيء ويلحق بسبب هذا الضررُ بهذا الولد، ولا يلزمه فيه الطاعة، كما لو قال له: طلق امرأتك؛ لأن الأب فقط لا يحبها، وقد يكون الأب في ديانته شيء من الضعف والمرأة متدينة وصالحة، فهو لا يحبها لربما لهذا، أو لأنها لا توافقه على أهوائه وأمزجته أو نحو ذلك، ثم يقول: طلقها، فيغضب إن لم يطلقها، هل هذا من العقوق؟ ليس ذلك من العقوق، وهكذا في صور وأمثلة، ولذلك العلماء -رحمهم الله- ترددوا في ضبط هذا العقوق، فعلى كل حال لو قلنا قولاً مجملاً: إنه مخالفة الوالدين فيما يجب أن يطيعهما به، دون أن يلحقه بسبب ذلك إجحاف أو ضرر فهذا من العقوق، وهذا يتفاوت بقدر هذه المخالفة، بقدر ما يحصل من التأذي، أحياناً قد يخالف والديه في شيء ولكن الأب ليس عنده مشكلة في هذا، وهو متسع الصدر تماماً، ومتقبل لوجهة النظر التي لابنه، فهذا ليس كالذي يكون في حال من الغضب، ولربما يكون يهدده بتطليق أمه، أو أنه لا يكلمه أو لا يراه إلى أن يموت أو نحو هذا، ففيه فرق.
فالقضية تتفاوت، فالعقوق من حيث هو من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، لكن العقوق كما نقول: كالذنب، كالمعصية، المعصية منها ما هو كبير ومنها ما هو صغير، فجنس العقوق من الكبائر، ويبقى تحته هذا العقوق يكون على مراتب، وعلى درجات وعلى صور، فمنه ما يكون من قبيل الكبائر، ومنه ما يكون من قبيل الصغائر، والناس يتفاوتون في مثل هذه الأمور.
وقطيعة الرحم تفهم مما ذكرناه في الصلة، الصلة تحصل ولو بالاتصال بالهاتف للاطمئنان، وأنه لا يلزم منها الزيارة للقرابات ونحو ذلك، وأن هذا يتفاوت قدره بحسب القرابة، وبحسب مكانهم، فإذا كان والده في البلد ولا يزوره إلا في السنة مرة فهذا من العقوق، في نفس المدينة، أو في الشهر مرة، فهذا من العقوق، فهذه القضايا لها اعتبار بالنسبة للعرف، بالنسبة للمكان، والحال، وما أشبه ذلك، لكن حينما يكون ابن عم لهذا الإنسان في نفس البلد ولا يراه إلا بالشهر مرة فهذا ليس من العقوق، حينما يكون في مدينة كبيرة مترامية الأطراف مثل الرياض، هذا في شرقها وهذا في غربها، وهؤلاء أبناء العم لا يرى بعضهم بعضاً إلا في الشهر مرة، ليس من العقوق، لربما يمضون الشهور لا يرون بعضهم لكن يتصل عليه يطمئن عليه فليس ذلك من العقوق، قد يكون والده أو والدته في بلد آخر فهنا هل هذا من العقوق؟
إذا كان يمضي سنة وما رآه، الجواب: لا، قد لا يتيسر له هذا، لكن الاتصال، الوالد إذا كان محتاجاً يعطيه، يواسيه ونحو ذلك.
وقد جاءتني اليوم رسالة يقول فيها السائل: إن والده قد قدّم عليه دعوى في المحكمة، يريده أن يعطيه من ماله، من راتبه، وهذا يأبى، يقول: لأنه سيئ المعاملة معي، مهما كان هذا والد، وأنت وما تملك لأبيك، لا يجوز أن تصل القضية إلى المحاكم بين أب وأبيه، الأب يقول: واسني من المال، وهذا يقول: لا، هذا عقوق، فكيف إذا وصل الأمر إلى حد الشتم؟!، كيف إذا وصل الأمر إلى حد الضرب؟!، وبهذا نعرف أن القضية تتفاوت.
الآية الأولى التي ذكرها: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ يعني: إن توليتم عن الإيمان، إن توليتم عن طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، إن توليتم عن الاستجابة لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، ماذا عسى أن تصنعوا، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، والإفساد في الأرض يقع بصور كثيرة، بتغوير المياه -الآبار- بإتلاف الأشجار، بإفساد الطرق، بقتل النفوس المعصومة، يكون الإفساد في الأرض بإتلاف الأموال، يكون الإفساد في الأرض بتغيير المنار، منار الأرض كما جاء عن النبي ﷺ: لعن الله من غيّر منار الأرض[1]، وهكذا ألوان الإفساد التي تحصل، فكل مايدخل تحت هذا المعنى فهو من الإفساد، بأي لون، وبأي صورة كانت، بصرف النظر عن قصد صاحبه، قد يظن أنه لا يفسد، وأنه يصلح، والله قال عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12]، فالعبرة ليست بالنية والقصد إنما العبرة بالنتيجة والثمرة، وما يحصل في هذه الأيام مما نشاهده، كلما ظننا أن هذه الفتن قد انطفأت وإذا بها تنبعث من جديد، من ألوان الإفساد، بغصب أموال الناس، بقتل النفوس، بإفساد مصالح الناس العامة، وألوان البلايا والضرر والرزايا التي ما كنا نظن أننا نعيش حتى نشاهدها، هذا كله من الإفساد في الأرض، وهذا الأمر يجب أن يُعرف، ولا يجوز السكوت عليه؛ لأن هذه أمور تتجدد، وفي كل يوم لربما يغتر أناس لم يسمعوا، فإذا سكت من ينتسب إلى العلم وبقي الناس جهالاً، فلربما يغتر الجاهل ويظن أن هذا من الحق، وأنه من الدين أو أنه من الإصلاح، أو أن الذي يخالفه أنه كذا، وفيه كذا، أو نحو ذلك، فهذا أمر لا يجوز السكوت عليه، لابد من أن يعرف الناس أن هذا من أبطل الباطل، ومن أسوأ ما يمكن أن يعمله الإنسان ويلقى الله به في هذه الحياة الدنيا بعد الشرك بالله ، يجب أن يعرف هذا.
الإنسان لَأنْ يلقى الله بكل ذنب دون القتل خلا الشرك بالله ، فإنه إذا جاء الإنسان بالدماء فإنه قد جاء عن بعض السلف كمعاوية بن أبي سفيان وابن عباس وجماعة: أنه لا يغفر له، وأنه لا تقبل توبته، والآيات في هذا قوية جدًّا وشديدة، فينبغي أن تعرف مثل هذه الأمور، وأن يعلم الجاهل وينصح الغافل، والإنسان حينما يبذل نفسه هذا البذل يبذلها في شيء يكون مرضاة لله ، وطاعة تقربه إلى الله ، لا أن يكون كدحه وعمله وسعيه وشقاؤه في أمور لا تزيده من الله -تبارك وتعالى- إلا بُعداً.
يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، تصور الآن -نسأل الله الهداية للجميع- حينما ترى صورة هذا الأب يكفكف دموعه على شاشة التلفاز من أجل ابنه هذا الذي قام بعمل من هذه الأعمال، أليس هذا من أعظم العقوق أيها الإخوان؟!، أليس هذا من أشد العقوق؟!
يُجرجَر هذا الأب وأمام الناس، ويبكي ويكفكف دموعه، ويفتضح في العالمين، ويبقى على كل لسان من أجل هذا الولد العاق، الذي ظن أنه يتقرب إلى الله بمعصيته، فهذه أمور ليست بالسهلة، الأم تبقى طريحة على فراشها مريضة، تتمنى الموت، وكثير من هؤلاء يتمنى أن يسمع خبر ولده أنه مات بحادث أو كذا، ولا يطلع غداً في شغلة تفسد وتدمر وتهلك الحرث والنسل.
فأقول: وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [الرعد:25]، شبهه بالحبل الذي قد أحكم وفُتل، يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وسبق الكلام على هذه الآية، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ، لاحظ هذه الأعمال لم يذكرها الله في الإشراك، لاحظوا هنا لم يذكر الشرك، وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ، فاللعنة قد تصيب الإنسان بسبب أعمال يعملها وإن كان من المسلمين.
وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، قضية التوحيد، وقد تكلمنا على هذه الآية أيضاً في الكلام على البر.
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، يعني وأحسنوا بالوالدين، أو ووصّى بالوالدين إحساناً؛ لأن "قضى" مضمن معنى "وصى"، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وهذا أدنى ما يتصور من العقوق، ما في أقل من "أف"، فإذا كانت "أف" منهيًّا عنها فما زاد عليها من باب أولى، إذا نظر إليه شزْراً، إذا قطّب وهو ينظر إلى أبيه، إذا كان ينفض يده في وجه أبيه، إذا كان يغلظ في الصوت، هو يقول ربما كلمة جيدة، يقول له: إن شاء الله، لكن إن شاء الله هذه تخرج وكأنها تخرج من جحيم، فهذا من العقوق.
وقوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، ذكرنا من قبل أن هذا يدل على أن حق كل واحد من الوالدين ثابت على سبيل الاستقلال، فلا هو يقوم ببر أحدهما من أجل مراعاة الآخر الذي يقول له: يجب أن تبر أمك مثلاً، أو الأم تقول: يجب أن تبر والدك، لا، كل واحد له حق ثابت، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا، وبعد ذلك التبعة أكبر عندما يكون الأب والأم في حال الحياة، في حال الكبر، يحتاج إلى مئونة زائدة، فهنافَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، والنهر: هو الزجر بالقول، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، يعني لا يكتفي أن يقول: أنا خلاص سأقعد ساكتًا؛ لأني ما أعرف أتكلم إلا بطريقة متوترة، سأجلس ساكتًا عند الوالدين، نقول له: لا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، تكلم بالكلام الطيب، وعود نفسك هذا، وتلطف بالقول، فأنت مأمور به.
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24]، هذا من إضافة الموصوف إلى صفته، جناح الذل، يعني جناحك الذليل، والجناح: هو الجانب، والمقصود به -كما هو معلوم- التواضع ولين الجانب، لا يرفع رأسه، ولا يتقدم على أبيه أو على أمه، لا يدخل قبلهما، لا يجلس قبلهما، مِنَ الرَّحْمَةِ، ليس مجاملة ولا خوفاً ولا كبراً ولا رياءً ولا مصانعة من أجل أن يحصّل شيئاً من أيديهما، لا، جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، يكون هذا التواضع رحمة بهما، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، يمكن أن تكون الكاف هذه للتشبيه، يعني مثلما ربياني صغيراً، ويمكن أن يكون ذلك للتحقيق أي رحمة محققة كما أن تربيتهما في الصغر كانت تربية واقعة حاصلة متحققة.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويرزقنا وإياكم البر والصلة، وحسن الأخلاق، وأن يعيذنا وإياكم من الشيطان وشركه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم (1978).