الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء من الآثار عن السلف في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم ما جاء من أن عبادة بن الصامت أنكر على معاوية شيئاً، وكان معاوية آنذاك والياً على الشام، فقال: لا أساكنك بأرض واحدة أبدًا، فرحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره بفعل معاوية، فقال له: ارحل إلى مكانك فقبّح الله أرضاً لست فيها أنت وأمثالك، فلا إمرة له عليك.[1]
عمر عرف لعبادة بن الصامت منزلته وعلمه وفضله، فقال ما قال.
ومن معرفة عمر لأهل الفضل فضلهم أنه قال لخباب، وخباب معروف أنه من ضعفاء المسلمين، من الذين أعتقوا، قال له: ادنُهْ فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار.[2]
وعمار أيضاً كان من الأرقّاء المعتقين، يعني: ما جاء بكبار القرشيين، وأهل الأنساب والأحساب، وإنما ذكر هذين خبابًا وعمارًا.
ولما دخل عدي بن حاتم علي عمر قال له: ألا تعرفني؟ قال عمر: أعرفك، أقمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا.[3]
يعني: أن الناس الكثير منهم من قبائل العرب ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي ﷺ، وكان ممن ثبت على الإسلام عدي بن حاتم ، فعرف له عمر هذا الثبات والفضل.
وقام ابن عباس إلى زيد بن ثابت فأخذ بركابه، فقال: تنحَّ يا ابن عم رسول الله ﷺ، فقال: إنما هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا.[4]
ابن عباس قرشي، ابن عم النبي ﷺ، يأخذ بركاب زيد بن ثابت، وزيد بن ثابت من علماء الصحابة، لكنه من صغارهم، هو صغير في السن، من الأنصار، فكان يأخذ بركابه توقيراً واحتراماً وتعظيماً للعلم الذي يحمله.
ويقول عبد الرحمن بن رزين: أتينا سلمة بن الأكوع بالرَّبَذة، وهي بادية قريبة، أو قرية، أو ناحية في بادية قريباً من المدينة، من جهة المشرق، معروفة إلى اليوم، وكان سلمة بن الأكوع لما وقعت الفتنة بين الصحابة اعتزل وذهب وسكن الربذة، من أجل أن ينأى بنفسه عن الفتن، يقول: فأخرج إلينا يداً ضخمة كأنها خف البعير، فقال: بايعت بيدي هذه رسول الله ﷺ، يقول: فأخذنا يده فقبلناها.[5]
وجاء عن عبادة بن الوليد أن الحسن بن محمد بن الحنفية قال: اذهب بنا إلى سلمة بن الأكوع فلنسأله فإنه من صالحي أصحاب رسول الله ﷺ، فخرجنا نريده فلقيناه يقوده قائده وقد كف بصره.[6]
وجاء عن ابن أبي مليكة قال: ذُكر ابن الزبير عند ابن عباس، وابن الزبير وابن عباس أعمارهما متقاربة، وهما صحابيان من صغار الصحابة، وكان بينهم أحياناً بعض ما يكون بين الناس، ومع ذلك انظروا ماذا قال، يقول ابن عباس في ابن الزبير: قارئ لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير وأمه أسماء وجده أبو بكر وعمته خديجة، وخالته عائشة، وجدته صفية، والله إني لأحاسب نفسي له محاسبة لم أحاسب بها لأبي بكر وعمر.[7]
يقول هذا في حق رجل من أقرانه، والعادة أن الأقران يكون بينهم من المنافسة وأشياء لربما من الشحناء، ولذلك انظر إلى الرجل أحياناً مع قِرنه إذا كان طالب علم، قد لا يذكره بشر، لكن قد لا يطريه ويثني عليه وهو من نظرائه، وهكذا تجد الطبيب مثلاً إذا كان له قرين في نفس التخصص، قد لا يذكره -وهو من أسنانه- أن هذا بارع في كذا وكذا، غاية ما هنالك أنه قد يسكت.
وهكذا أصحاب الصنائع المتحدة يعني: هذا إنسان له صنعة يماثله آخر بنفس الصنعة، تجد أنه يكون بينهم أحياناً شيء من التحسس، هذا نجار وهذا نجار، أو هذا مهندس وهذا مهندس، هذا كيميائي وهذا كيميائي، هذا صيدلي وهذا صيدلي، تجد الوتر عندهم مشدودًا، والطيب منهم هو الذي لا يذكر الآخر بسوء.
وهكذا أصحاب التجارات المتحدة، هذا عقاري وهذا عقاري، قد تجد عينه دائماً عليه، ما يطالع الخبّاز، ولا يطالع صاحب البقالة، ولا يطالع الطابع، لا، يطالع هذا الذي يشتغل بنفس صنعته، بينهم تنافس، بينهم شيء، بينهم كذا.
هؤلاء أهل العلم نفس القضية، ابن عباس ذكر عن أهل العلم أنهم أشد تدافعاً من ...، يعني: شبههم بتشبيه لا داعي له، فيقول عن ابن الزبير كل هذا الكلام، من الذي اليوم يمدح ويثني أمام الناس على إنسان من أقرانه، زميل له في دراسة، أو قرين له في العمل، أو نحو ذلك يطريه بهذه الأشياء عند رئيسه أو عند الناس؟، هذا نادر.
النفوس صعبة، وفيها ما فيها من المعوقات والأشياء التي تشد الإنسان إلى حظوظه الشخصية، وما أشبه هذا. ومعاوية كان يلقى ابن الزبير فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواري رسول الله، ويأمر له بمائة ألف.[8]
وهذا أنس يقول: صحبت جرير بن عبد الله فكان يخدمني وقال: إني رأيت الأنصار يصنعون برسول الله ﷺ شيئاً، لا أرى أحداً منهم إلا خدمته، يقول: لفعلهم وقيامهم على رسول الله ﷺ.
ومن النماذج، وهي كثيرة أذكر بعضها:
يقول شرحبيل بن مسلم: كان الولاة يتيمنون بأبي مسلم الخولاني، -هو من التابعين مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، لكنه ما لقي النبي ﷺ، ويؤمرونه على المقدمات[9]، يعني: في الجيوش؛ لصلاحه وتقواه ومعرفته.
وجاء عن كثير بن مرة قال: دخلت المسجد يوم الجمعة فمررت بعوف بن مالك الأشجعي وهو باسط رجليه فضمهما[10]، عوف بن مالك صحابي، وكثير بن مرة من التابعين، يقول: وهو باسط رجليه فضمهما ثم قال: يا كثير، أتدري لما بسطت رجلي؟، بسطتهما رجاء أن يجيء رجل صالح فأجلسه، وإني لأرجو أن تكون رجلاً صالحاً.
يعني: كأنه الآن صحابي يحجز مكانًا لواحد من التابعين، كأنه واحد من أولاده أو من أولاد أولاده، ويتكلم معه بهذه الطريقة، لم ينظر إليه باستنكاف، وقال: أنتم ما ولدتم إلا البارحة، لم يقل له مثل هذا الكلام.
ويقول أبو قيس الأودي: رأيت إبراهيم النخعي آخذاً بالركاب لعلقمة[11]، هؤلاء كلهم من التابعين، يأخذ بركابه، راحلته، تقديراً وتوقيراً، تابعي مع رجل من التابعين.
وحدث أبو الضحاك: أنه أبصر مصعب بن الزبير يمشي في جنازة الأحنف بغير رداء[12]، من شدة حفاوته به.
وسئل أبو وائل شقيق بن سلمة: أنت أكبر أو الربيع بن خثيم؟، قال: أنا أكبر منه سنًّا، وهو أكبر مني عقلاً.[13]
وجاء عن الأعمش قال: أدركت أشياخنا -يقصد زر بن حبيش وأبا وائل، وهؤلاء كلهم من التابعين- فمنهم مَن عثمان أحب إليه من عليٍّ، ومنهم مَن عليٌّ أحب إليه من عثمان، وكانوا أشد شيء تحابًّا وتوادًّا.[14]
وجاء عن عاصم يقول: كان أبو وائل عثمانياً، يعني يحب عثمان ، وكان زر بن حبيش علويًّا، وما رأيت واحداً منهم قط تكلم في صاحبه حتى مات، وكان زر أكبر من أبي وائل، فكانا إذا جلسا جميعاً لم يُحدِّث أبو وائل مع زر، يعني: يتأدب معه لسنه.[15]
واليوم الإنسان يختلف مع صاحبه في قضية اجتهادية، في قضية سهلة، ولربما يجعل ذلك سبباً للوقيعة فيه في المجالس، وعيبه وانتقاصه ومباينته، وما أشبه ذلك، وهذا لقلة العلم وغلبة الهوى.
وجاء عن عبادة بن نُسَيٍّ قال: قال ابن عمر: إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه[16]، يعني: عبد الملك بن مروان، مروان كان أميراً على المدينة، وعبد الملك بن مروان كان من أهل القرآن قبل توليه الخلافة، وكان من أهل الفقه والعلم، وابن عمر من علماء الصحابة الكبار.
ويتحدث عن مروان، مروان ليس من الصحابة، ويتحدث عن ابن لمروان وهو عبد الملك، ولا يخفى كيف كانت الأحوال آنذاك في ولاية مروان، وما كان يُلزَم به ابن عمر وأمثال ابن عمر من أخذ البيعة ليزيد، والذي كان يلزمهم هو مروان، ومع ذلك يقول: لمروان ابن فقيه فاسألوه.
هذا في زمن الصحابة، في زمن ابن عمر.
يقول نافع: لقد رأيت المدينة وما بها شاب، نافع هذا مولى ابن عمر، وهو من العلماء أيضاً، يقول: رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك.[17]
ويقول محمد بن سيرين: جلست إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى وأصحابُه يعظمونه كأنه أمير.[18]
عبد الرحمن بن أبي ليلى هذا عالم، إذا جلسوا معه تأدبوا معه غاية التأدب.
ويقول سلمة بن كهيل: ما اجتمع الشعبي وإبراهيم -يعني: إبراهيم النخعي- إلا سكت إبراهيم، وكلهم من التابعين.[19]
وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه قال: أليس فيكم ابن الدهماء؟ يعني: سعيد بن جبير[20]، وسعيد من التابعين، ابن عباس حبر الأمة، وعلم من أعلام المسلمين في كل فن ويقول: أليس فيكم ابن الدهماء، سعيد بن جبير مولى وهو من التابعين، فيحيلهم عليه.
يقول سعيد بن جبير: سأل رجل ابن عمر عن فريضة فقال: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني.[21] من يقول هذا؟! يحيل إلى شاب صغير من الموالي من التابعين، وابن عمر من كبار علماء الصحابة .
أقول: هؤلاء جاهدوا أنفسهم، وتربوا على يد رسول الله ﷺ فوصلوا إلى هذا المستوى الكبير، ونحن لا يمكن أن نعرف لأهل الفضل فضلهم إلا بمجاهدة النفوس والقيام عليها، وملاحظة مداخل الهوى فيها.
فأسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يهدي قلوبنا وأعمالنا ويصلح أحوالنا، وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، السخاوي (2/ 10).
- انظر: الطبقات الكبرى (3/ 122).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (40/ 83).
- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي (5/ 215).
- انظر: الطبقات الكبرى (4/ 229).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (22/ 103).
- انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 400).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/ 367).
- المصدر السابق (4/ 13).
- المصدر السابق (4/ 47).
- معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ (1/ 436).
- المعرفة والتاريخ (1/ 223)، سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 96).
- الطبقات الكبرى ط دار صادر (6/ 96).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 169).
- تاريخ الإسلام ت تدمري (6/ 68).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 247).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (37/ 119).
- انظر: المصدر السابق (36/ 90).
- انظر: المصدر السابق (25/ 367).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 325).
- انظر: الطبقات الكبرى (6/ 269).