الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء في باب إكرام العلماء وأهل الفضل عن السلف ما جاء عن أبي الحسن بن العطار قال: رأيت أحمد بن حنبل يأخذ لداود بن عمرو بالركاب[1]، تواضعاً وتأدبًا معه وإكراماً وإجلالاً.
وجاء محمد بن أبي بشر إلى الإمام أحمد يسأله عن مسألة فقال: ائت أبا عبيد -يعني: القاسم بن سلّام، فإن له بياناً لا تسمعه من غيره، يقول: فأتيته فشفاني جوابه، فأخبرته بقول أحمد، يعني: أن الإمام أحمد أحالني عليك، وقال فيك ما قال، فقال: ذلك رجل من عمّال الله، نشر الله رداء عمله -يعني الله أظهر عمله الطيب للناس، وإن أخفاه هو، وذخر له عنده الزلفى، أما تراه محبباً مألوفاً؟، ما رأت عيني بالعراق رجلاً اجتمعت فيه خصال هي فيه، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم، فإنه لكما قيل:
يَزينُك إمّا غاب عنك فإن دنا | رأيتَ له وجهًا يسرك مُقبلا |
يعلِّم هذا الخلْقَ ما شذّ عنهمُ | من الأدب المجهول كهفًا ومَعقِلا |
ويحسن في ذات الإله إذا رأى | مضيمًا لأهل الحق لا يسأمُ البَلا |
وإخوانُه الأدنوْنَ كلُّ موفقٍ | بصيرٍ بأمر الله يسمو على العُلا [2] |
هذا ما قاله أبو عبيد في الإمام أحمد -رحمه الله، هكذا يقول الأقران في بعضهم إذا كانت نفوسهم نقية، تقية.
ولما مات سعيد بن أحمد بن حنبل جاء إبراهيم الحربي وهو إمام كبير إلى عبد الله بن أحمد يعزيه، فقام إليه عبد الله، الحربي يقول لابن الإمام أحمد لعبد الله: تقوم إليّ؟ قال: والله لو رآك أبي لقام إليك، فقال إبراهيم: والله لو رأى ابن عيينة أباك لقام إليه، ابن عيينة من طبقة أعلى من طبقة الإمام أحمد، قبله.
وجاء عن المروزي قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: قال لي رجل: مِن هنا إلى بلاد الترك يدعون لك، فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك؟، هذا رجل يقول للإمام أحمد: جعل الله لك الذكر الطيب، والسمعة الحسنة، والمحبة في قلوب الخلق، فهم يدعون لك إلى بلاد الترك، يقول: قال الإمام أحمد -رحمه الله: أسأل الله أن لا يجعلنا مرائين[3].
ولما قال له رجل: إن الناس يدعون لك حتى اليهود والنصارى، الرجل يقول: إنه أتى من الثغر مكان الرباط، يقول: فكان الناس يضربون بالمنجنيق، ويقولون: هذا عن الإمام أحمد، المنجنيق مثل المدفع، حتى إنهم يقولون: علا رجل على بعض قلاع العدو، فضرب رجل بالمنجنيق وقال: هذا عن الإمام أحمد، فأطارت رأس ذلك الرجل، فقال الإمام أحمد: أسأل الله أن لا يكون ذلك استدراجاً[4].
ويقول عبد الله بن محمد الوراق: كنت في مجلس أحمد بن حنبل فقال: من أين أقبلتم؟، قلنا: من مجلس أبي كريب، فقال: اكتبوا عنه فإنه شيخ صالح، انظروا إلى التربية، فقلنا: إنه يطعن عليك، يعني يتكلم عليك، يذمك، فقال: فأيُّ شيء حياتي؟، من أنا؟، شيخ صالح بُلي بي، ما ذمه، وما تراجع عن قوله فيه، شيخ صالح بُلي بي[5].
ويقول عبد الله بن أحمد: سمعت أبي سئل: لم لم تسمع من إبراهيم بن سعد كثيراً وقد نزل في جوارك بدار عمارة؟، فقال: حضرنا مجلسه مرة فحدثنا، فكان المجلس الثاني رأى شباباً تقدموا بين يدي الشيوخ فغضب وقال: والله لا حدثت سنة، فمات ولم يحدث، يعني الموضوع الذي نتحدث عنه هو إكرام أهل الفضل والعلم، فهذا رأى في المجلس شيئاً يخرج عن حد الأدب، الشباب تقدموا على الشيوخ، فحلف أن لا يحدثهم سنة كاملة.
ويقول المروذي: قال جارنا فلان: دخلت على إسحاق بن إبراهيم الأمير وفلان وفلان، وذكر سلاطين، ما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، هذا دخل على السلاطين ويقول: ما رأيت أكثر هيبة من الإمام أحمد، سرتُ إليه أكلمه في شيء فوقعت عليّ الرعدة من هيبته، يقول: ارتبكت وصرت أرتجف من الإمام أحمد، ثم قال المروذي: ولقد طرقه الكلبي صاحب خبر السر ليلاً -يعني خبر السر للسلطان، فمن هيبته لم يقرعوا، يعني ما استطاعوا أن يدقوا بابه، ودقوا باب عمه.
وكان الإمام أحمد -رحمه الله- من أحيى الناس -شديد الحياء، وأكرمهم وأحسنهم عشرة وأدباً، كثير الإطراق، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقار وسكون، ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ، شديداً، وكانوا يعظمونه، وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم أره يعمله بغيره من التواضع والتكريم والتبجيل، وكان يحيى أكبر منه سبع سنين، لكنه يعد من أقرانه، ويعظمه هذا التعظيم ويجله هذا الإجلال[6].
وقال -رحمه الله: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه -وهو صاحب الإمام أحمد- وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً، هذا عند العلماء، أما الناس الذين قل علمهم، أو قل دينهم، أو قل عقلهم فإنهم إذا اختلفوا في أدنى اجتهاد تحول هذا الاختلاف إلى شقاق ونزاع وعداوة، وتفرقوا وصارت حالهم إلى شيء يسر به الشيطان.
يقول البغوي -رحمه الله: قدم لُوَين بغداد، فاجتمع في مجلسه مائة ألف نفس، حُزروا بذلك في ميدان الأُشنان، مائة ألف اجتمعوا على رجل من أهل الحديث[7].
وجاء أيضاً عن يحيى بن جعفر قال: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم.
ويقول حاشد بن إسماعيل: كنت بالبصرة فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل -يعني البخاري، فلما قدم قال بُندار، وبُندار هو أحد شيوخ البخاري: اليوم دخل سيد الفقهاء[8].
ويقول محمد: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: لما دخلت البصرة صرت إلى مجلس بندار فلما وقع بصره علي قال: من أين الفتى؟ قلت: من أهل بخارى، فقال لي: كيف تركت أبا عبد الله يعني: البخاري؟ ما عرفه، يسأله عن البخاري والبخاري هو الذي أمامه، كيف تركت أبا عبد الله؟، فأمسكتُ فقالوا له: يرحمك الله، هو أبو عبد الله، فقام وأخذ بيدي وعانقني وقال: مرحباً بمن أفتخر به منذ سنين[9].
وخرج رجل من أصحاب عبد الله بن منير إلى بخارى في حاجة له، فلما رجع قال له ابن منير: لقيت أبا عبد الله؟، قال: لا، فطرده، وقال: ما فيك بعد هذا خير؛ إذ قدمت بخارى ولم تصر إلى أبي عبد الله محمد بن إسماعيل، كيف تصل إلى بخارى ولا تقابل محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح -رحمه الله-؟.
يقول الحاكم النيسابوري: سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي تواضعاً وتأدباً.
وقال مسلم بن الحجاج لما جاء إلى البخاري، مسلم يقول للبخاري: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذِين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله[10].
ويقول محمد بن يعقوب بن الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركباناً على الخيل، سوى من ركب بغلاً أو حماراً، وسوى الرجالة.
ويقول الخلال: خرج أبو بكر المروذي إلى الغزو فشيعوه إلى سامراء، يعني من بغداد إلى سامراء، فجعل يردهم فلا يرجعون، قال: فحُزروا، الناس يعني حُزروا، فإذا هم بسامراء سوى من رجع نحو خمسين ألفاً. هؤلاء الذين خرجوا يشيعونه نحو خمسين ألفاً، فقيل له: يا أبا بكر، احمد الله فهذا علم قد نُشر لك، فبكى وقال: ليس هذا العلم لي إنما هو لأبي عبد الله أحمد، يعني المروذي من تلاميذ الإمام أحمد، فيجله الناس هذا الإجلال ويخرج معه أكثر من خمسين ألفًا يشيعونه لما أراد الغزو، فيقولون له: هذا علم نُشر لك، يقول: لا، هذا علم الإمام أحمد، إنما عرفوني بالإمام أحمد -رحمه الله.
وكان إبراهيم الحربي -رحمه الله- رجلاً صالحاً، هؤلاء كلهم من العلماء، من طبقة الإمام أحمد ومن تلامذته وشيوخه، كان رجلاً صالحاً من أهل العلم، بلغه أن قوماً من الذين كانوا يجالسونه يفضلونه على أحمد بن حنبل، فوقفهم على ذلك، قال: أنتم قلتم هذا؟ فأقروا به، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لا أشبهه، ولا ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أُسمعكم شيئاً من العلم أبداً فلا تأتوني بعد يومكم.
ما قال: ما شاء الله، هؤلاء الذين عرفوا قدري، وأنا الآن بخير يوم أني فضلت على الإمام أحمد.
وأيضاً مما يذكر في هذا الباب مما يدل على تعظيمهم وإجلالهم لأهل الفضل ما جاء من أن المكتفي الخليفة أراد أن يحبس وقفاً تجتمع عليه أقوال العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتاباً لذلك فأخرجت له جائزة فامتنع من قبولها، فقيل له: لابد من قضاء حاجة، يعني: اطلب، قال: أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة ففعل ذلك.
يعني: أنه لم يطلب شيئاً لنفسه، لكن طلب شيئاً فيه نفع عام، أو إزالة منكر، هؤلاء الذين يقفون في جانب المسجد، أحدهم يأخذ ميمنة المسجد والآخر يأخذ ميسرة المسجد، ويخطبون خطباً للناس يقطعون الأذكار، ويشغلون الناس، وكل واحد يشكو الخالق على المخلوقين، يطلب ويسأل، فهذا ينبغي أن يُمنع، لكن من غير رفع صوت ولا زجر؛ لأن الله نهى عن هذا، ولكنه يؤمر أن يجلس في آخر المسجد، ولا يتكلم ولا يخطب في الناس، فابن جرير -رحمه الله- ما طلب شيئاً حينما سأله الخليفة، وإنما قال: فقط امنع هؤلاء الذين يسألون يوم الجمعة في المسجد[11].
وجاء عن أبي جعفر محمد بن جرير -رحمه الله- صاحب التفسير، لما دخل بغداد، وكانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت، فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكُمَّيْ قميصه، فقال له بعض أصدقائه: تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان؟، قال: نعم، فمضى الرجل، فأحكم له أمره، يعني اتفق معهم، وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه، فقربه الوزير ورفع مجلسه وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر، فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة، والشاهد أنه فعل، فأدخل في حجرة التأديب وخرج إليه الصبي، وهو أبو يحيى.
يعني: أعطاه اللوح وعلمه الكتابة، كتب له، أخذ الخادم اللوح، ودخلوا مستبشرين، فلم تبقَ جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير، فرد الجميع وقال: قد شورطت على شيء فلا آخذ سواه، فدرى الوزير بذلك، فأدخله إليه وسأله، فقال: هؤلاء عبيد وهم لا يملكون، فعظم ذلك في نفسه، الشاهد هذه، أنا أوردت هذه لفائدة، هي والتي قبلها، التي قبلها في مسألة السؤال بعد الصلاة في المسجد، وهذه الفائدة تتعلق بأولائك الذين يعملون أعمالاً أعطوا عليها أجرة، يعمل طبيبًا في مستشفى، أو يعمل موظفًا في مكان أو نحو هذا، ثم يأتيه هذا بهدية، وهذا يجري له عملية ويعطيه هدية، وهذا معلم يعطيه الطلاب هدايا ونحو ذلك، فهذا ليس له أن يأخذها؛ لأن له أجرًا، يأخذ هذا الأجر، والنبي ﷺيقول: هدايا العمال غُلول[12]، ولا يجوز للإنسان أن يستغل عمله ووظيفته من أجل تحصيل مصالح ذاتية شخصية، وتكوين علاقات، وما أشبه ذلك، يتمصلح منها، فإن هذا أمر يسيء ولا يليق بحال من الأحوال، ويفسد الذمم، فينبغي أن يتلطف بالاعتذار من هؤلاء الناس.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (11/ 131).
- المصدر السابق (11/ 201).
- مناقب الإمام أحمد (ص: 202).
- سير أعلام النبلاء (11/ 312).
- تاريخ دمشق (55/ 58).
- سير أعلام النبلاء (11/ 317).
- المصدر السابق (11/ 501).
- تاريخ دمشق (52/ 84).
- تاريخ بغداد وذيوله (2/ 17).
- المصدر السابق (20/ 167).
- سير أعلام النبلاء (11/ 167).
- أخرجه أحمد في مسنده (39/14)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1177)، برقم: (7021).