- مقدمة باب زيارة أهل الخير ومجالستهم
- قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ...}
ثم أورد المصنف -رحمه الله- بعد ذلك باباً آخر وهو باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم -يعني: أنه يطلب منهم أن يزوروه- والدعاء منهم، يعني: طلب الدعاء منهم، وهذا الأمر أي: طلب الدعاء منهم لا شك أنه جائز.
لكن هل هو خلاف الأولى؟ الذين يقولون: طلب الدعاء منهم أمر مطلوب ومشروع لعل الله أن يتقبل ذلك يحتجون بحديث أن النبي ﷺ قال لعمر : لا تنسنا يا أخي من دعائك[1]، أو كما قال ﷺ، والحديث فيه ضعف، لا يصح، والأولى أن يدعو الإنسان لنفسه، فالدعاء عبادة يحبها الله ، ولا يكل ذلك إلى الآخرين، ثم إن طلبه منهم أن يدعوا له هذا فيه نوع افتقار للمخلوق، كذلك أيضاً هذا فيه شيء من التزكية، يعني: حينما تقول لفلان: يا فلان أطلب منك أن تدعو لي، كأنك تقول بلسان الحال، أو بطريقة غير مباشرة: أظن فيك أنك تستجاب الدعوة فادع لي، ففيه تزكية، عموما الإنسان يدعو لنفسه، هذا هو الأولى به، ولكن لو أنه طلب من أحد آخر أن يدعو له فإن ذلك ليس بممنوع شرعاً، لكن الكلام في الأولى.
قال: والدعاء منهم، وزيارة المواضع الفاضلة، المواضع الفاضلة ينبغي أن تحمل هنا على زيارة ما يشرع زيارته، أمّا السفر وشد الرحال فللمساجد الثلاثة فقط، المسجد الحرام ومسجد النبي ﷺ والمسجد الأقصى، لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد[2]، وأما إذا كان الإنسان في البلد فإنه يشرع له، مثل إذا كان في المدينة، أو سافر إلى المدينة فإنه يشرع له زيارة مسجد قباء، أمّا أن يتتبع آثار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ونحو ذلك فإن هذا أمر لا يشرع.
ثم ذكر جملة من الآيات، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60].
يقول: لَا أَبْرَحُ أي: لا أزال أسير وأواصل السير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، فتاه هو يوشع بن نون، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، لَا أَبْرَحُ أي: لا أزال أسير حتى أصل إلى هذا المكان، حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، مجمع البحرين قيل: هي الأرض التي تكون بين منتهى البحر الأحمر وبحر الأردن الذي هو الآن يسمى بالبحر الأبيض المتوسط.
وبعضهم يقول: هو بحر فارس، ويقصدون به الخليج العربي، المنطقة التي تكون بين الخليج وبين بحر الروم، في هذه المنطقة.
وبعضهم يبعد كثيراً ويقول: عند طنجة يعني: ملتقى المحيط مع البحر الآخر، يلتقيان في مضيق، وهو مضيق جبل طارق.
وبعضهم يقول غير هذا.
وبعضهم يؤوله بتأويلات بعيدة لا دليل عليها.
فقوله: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ يعني: مجمع البحرين كأنه هو المكان الذي جُعل منتهى لسيره، أو حدد له، أو جعل علامة أو نحو ذلك للقياه للخضر، حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، أمضي حقباً: أي: أمضي أزماناً طويلة في المسير، إلى قوله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فهذا فيه غاية التأدب.
وسبب هذه القضية أن موسى وقف خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، ولم يضف العلم إلى الله -تبارك وتعالى، فعلمه الله -تبارك وتعالى- أن من عباده من هو أعلم منه[3].
والحديث فيه مشروعية السفر في طلب العلم، الرحلة في طلب العلم، وبذل الأسباب في ذلك، وهنا موسى ﷺ كان مع ما أعطاه الله من العلم، وأوحى إليه، إلا أنه لما أعلمه الله -تبارك وتعالى- أن من عباده من هو أعلم منه سافر إليه، ولم يكتفِ بما عنده، ولما رآه والتقى به، وهو الخضر، التقى به في المكان الذي انطلق منه الحوت؛ لأن بقية الآيات لو جلسنا نتحدث عنها يطول المجلس، لكن الإشارة تكفي، لأنه قال: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:61-62]، كثير من المفسرين يقولون: إن الحوت هذا كان في مكتل وكان ميتاً، فكانوا عند صخرة، وانطلق الحوت، قفز من المكتل إلى البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، يعني: صار المكان الذي دخل فيه في البحر مثل الفجوة أو الغار أو الكُوَّة أو النافذة، كأنه جمد عليه الماء بأمر الله -تبارك وتعالى، فانطلقوا ولم يشعروا به، فلما أصابه ما أصابه من الجوع والجهد والتعب قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، قَالَ أرأيت لاحظ الأدب في الكلام وخطاب الكبراء والعلماء، وأئمة الدين، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، أرأيت بأسلوب العرض، يعرض عليه لو رجعوا إلى الصخرة التي كانوا عندها، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63] نسيان الأمور الجيدة والفاضلة ونحو ذلك يعزوها الإنسان إلى الشيطان.
ولذلك جاء عن النبي ﷺ أنه قال: بئس ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي[4].
فقال: وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، فالشيطان يُنسي الإنسان ما هو بصدده وما ينفعه.
وقوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، شيء عجيب كيف هذا الحوت ميت وفي مكتل -حتى قيل: إنه كان مملحاً، وقيل: إنهم كانوا كلما جاعوا أخذوا منه- ثم بعد ذلك ترجع له الحياة بأمر الله -تبارك وتعالى، وينطلق وينغمس في البحر؟!، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، هذا الذي كنا نطلب، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، يقصان الأثر من أجل أن يصلا إلى المكان المعين، فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا [الكهف:65]، وصفه الله بالعبودية، فهي أكمل مقامات العبد، ومن أراد أن يكمل نفسه فليعبِّدها لله -، عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا، العلماء مختلفون هل هو نبي أو لا؟ والراجح: أنه ليس بنبي، وجده وعليه فراش، أو على برد أخضر فقيل له: الخضر لهذا السبب.
فالحاصل أن موسى ﷺ تلطف به، قال له موسى -على مقام موسى عند الله وهو نبي: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، يعرض عليه بهذا الأسلوب اللطيف هل أتبعك تأذن لي في اتباعك على أن تعلمني، أستفيد منك، فالإنسان إذا أراد أن يتعلم، وأراد أن يسأل ينبغي أن يختار العبارات المهذبة، العبارات اللطيفة، ويكون ذلك سبباً أدعى إلى أن يُعطَى ما طلب، وما رغب فيه من العلم، ولا يأتي بأسلوب فيه فظاظة وفيه غلظة.
انظروا الفرق بين هذا وبين ما قص الله من أولئك الذين تسوروا على داود المحراب، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:21]، الذين تخاصموا، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، ما جاءوا واستأذنوا ودخلوا عليه، لا، جاءوه في وقت خلوته، والباب مغلق، فتسوروا السور، والمحراب هو المكان الشريف الذي يجلس فيه الإنسان، أشرف الأماكن، وأرفع الأماكن، ليس المقصود هذا المحراب الذي يبنى في المساجد، لا، وقيل: المكان الذي يجلس فيه الإنسان يتعبد فيه ربه، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ [ص: 22]، تسوروا المحراب ففزع منهم، قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، لاحظ الأسلوب، فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وهل سيحكم بينكم بغير الحق؟، وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى، اهدنا إلى ماذا؟ سَوَاء الصِّرَاطِ، هل هو سيهديهم إلى غير ذلك؟، هل سيضللهم؟، ولذلك يأتي بعض الناس يشتط، عنده سؤال، ويحتدم هذا السؤال في نفسه، ويأتي ويقول: أسألك بالله أن تجيبني بما تعتقد، وهل أنا سأضللك؟، هل أنا سأقول لك خلاف ما أعتقد؟! فيسأل أهل العلم بهذا الأسلوب، وهذا غير صحيح.
فينبغي للإنسان أن يتحرى، وأن يتأدب، وأن يتلطف عند طلب العلم، أو عند السؤال، أو نحو ذلك، أو عموماً مع من هو أكبر منه، أو مع والديه، أو مع من له حق عليه.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ويصلح أعمالنا وأحوالنا ونياتنا وذرياتنا، وأن يوفق أبناءنا وبناتنا، وأن يلهمهم رشدهم، وأن يسددهم، وأن يحسن لهم العاقبة في الأمور كلها، وأن يجيرنا جميعاً من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبوداود (2/ 614)، برقم: (1498)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (2/ 92)، برقم: (264).
- أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، (2/ 60)، برقم: (1188).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله (1/ 35)، رقم: (122)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر (4/ 1847)، رقم: (2380).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن، وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا، (6/ 194)، برقم: (5039)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أُنسيتها، (1/ 544)، برقم: (790).