إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الأحبة، هناك مسائل أخرى تأتي -إن شاء الله تعالى- في ثنايا الكلام على الآيات والأحاديث التي تضمَّنها هذا الكتاب.
وقبل أن أبدأ بشرح ذلك أقول: لو نظرنا نظرةً في الفهرس الذي وُضِعَ للموضوعات في هذا الكتاب أو في غيره من كتب الأذكار ماذا سنجد؟
نجد بعد فضل الذكر: أذكار الاستيقاظ من النوم، دعاء لبس الثوب، دعاء لبس الثوب الجديد، الدّعاء لمن لبس ثوبًا جديدًا، ما يقول إذا وضع ثوبه، دعاء دخول الخلاء، دعاء الخروج من الخلاء، الذكر قبل الوضوء، الذكر بعد الفراغ من الوضوء، الذكر عند الخروج من المنزل، الذكر عند دخول المنزل، دعاء الذَّهاب إلى المسجد، دعاء دخول المسجد، دعاء الخروج من المسجد، أذكار الأذان، دعاء الاستفتاح، دعاء الركوع، دعاء الرفع من الركوع، دعاء السُّجود، دعاء الجلسة بين السَّجدتين، دعاء سجود التلاوة، التَّشهد، الصَّلاة على النبي ﷺ بعد التَّشهد، الدُّعاء بعد التَّشهد الأخير قبل السلام، الأذكار بعد السلام من الصَّلاة، دعاء صلاة الاستخارة، أذكار الصباح والمساء، أذكار النوم، الدعاء إذا تقلَّب ليلًا، دعاء الفزع في النوم ومَن بُلِيَ بالوحشة، ما يفعل مَن رأى الرؤيا أو الحلم، دعاء قنوت الوتر، الذكر عقب السلام من الوتر، دعاء الهمّ والحزن، دعاء الكرب، دعاء لقاء العدو وذي السُّلطان، دعاء مَن خاف ظلم السُّلطان، الدّعاء على العدو، ما يقول مَن خاف قومًا، دعاء مَن أصابته وسوسة في الإيمان، دعاء قضاء الدَّين، دعاء الوسوسة في الصلاة والقراءة، دعاء مَن استصعب عليه أمرٌ، ما يقول وما يفعل مَن أذنب ذنبًا، دعاء طرد الشَّيطان ووساوسه، الدُّعاء حينما يقع ما لا يرضاه أو غلب على أمره، تهنئة المولود له وجوابه، ما يُعوِّذ به الأولاد، الدُّعاء للمريض في عيادته، فضل عيادة المريض، دعاء المريض الذي يئس من حياته، تلقين المحتضر، دعاء مَن أُصيب بمصيبةٍ، الدُّعاء عند إغماض الميت، الدُّعاء للميت في الصَّلاة عليه، الدُّعاء للفرط في الصلاة عليه، دعاء التَّعزية، الدعاء عند إدخال الميت القبر، الدعاء بعد دفن الميت، دعاء زيارة القبور، دعاء الريح، دعاء الرعد، من أدعية الاستسقاء، الدُّعاء إذا رأى المطر، الذكر بعد نزول المطر، من أدعية الاستصحاء، دعاء رؤية الهلال، دعاء الصائم، الدُّعاء قبل الطعام، الدعاء عند الفراغ من الطَّعام، دعاء الضَّيف لصاحب الطعام، التَّعريض بالدعاء لطلب الطعام أو الشَّراب، الدعاء إذا أفطر عند أهل البيت، دعاء الصائم إذا حضر الطعامُ ولم يُفطر، ما يقول الصائمُ إذا سابَّه أحدٌ، الدعاء عند رؤية باكورة الثَّمَر، دعاء العطاس، ما يُقال للكافر إذا عطس فحمد الله، الدعاء للمُتزوج، دعاء المتزوج وشراء الدَّابة، الدُّعاء قبل إتيان الزوجة، دعاء الغضب، دعاء مَن رأى مُبتلًى، ما يُقال في المجلس، كفَّارة المجلس، الدُّعاء لمن قال: غفر اللهُ لك، الدعاء لمن صنع إليك معروفًا، ما يعصم اللهُ به من الدَّجال، الدعاء لمن قال: إني أُحبُّك في الله، الدُّعاء لمن عرض عليك ماله، الدُّعاء لمن أقرض عند القضاء، دعاء الخوف من الشِّرك، الدُّعاء لمن قال: بارك اللهُ فيك، دعاء كراهية الطِّيرة، دعاء الركوب، دعاء السَّفر، دعاء دخول القرية أو البلدة، دعاء دخول السُّوق، الدُّعاء إذا تعس المركوب، دعاء المسافر للمُقيم، دعاء المقيم للمُسافر، التَّكبير والتَّسبيح في سير السَّفر، دعاء المسافر إذا أسحر، الدعاء إذا نزل منزلًا في سفرٍ أو غيره، دعاء الرجوع من السَّفر، ما يقول مَن أتاه أمرٌ يسرّه أو يكرهه، فضل الصلاة على النبي ﷺ، إفشاء السلام، كيف يرد السلام على الكافر إذا سلَّم، الدعاء عند سماع صياح الدِّيك ونهيق الحمار، الدُّعاء عند سماع نباح الكلاب بالليل، الدعاء لمن سببتَه، ما يقول المسلمُ إذا مدح المسلمَ، ما يقول المسلمُ إذا زُكِّيَ، كيف يُلبي المحرمُ في الحجِّ أو العُمرة، التكبير إذا أتى الحجرَ الأسود. إلى آخر ما ذكر فيما يتَّصل بالحجِّ والمناسك، ثم ذكر بعد ذلك أشياء من الأذكار.
المقصود -أيُّها الأحبة- أنَّ مثلَ هذا العرض نأخذ منه معنًى كبيرًا، وهو أنَّ هذه الشريعة كاملة، شاملة، وأنَّ هذا الذكر يشمل أحوال المسلم من أوَّلها إلى آخرها، فقد شرع اللهُ -تبارك وتعالى- له بكل أحواله وأوقاته ما يتحقق به إشباع حاجاته المتنوعة: الحاجات النَّفسية، الحاجات المادية، الحاجات الروحية، الميل إلى جانب التَّعبد عند الإنسان، حيث فيه ميلٌ جبليّ إلى كنفٍ يطمئن إليه، فذلك كلّه يُشعره بمعية الله له، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- معه، فإذا أصابته الأوجاعُ والآلامُ والأسقامُ، وانتابته المخاوفُ من كل ناحيةٍ؛ جاءت الأذكار، الرُّقَى، التَّعوذ من كلِّ الشُّرور والأشرار من الإنس والجنِّ.
وهكذا أيضًا ما يعرض للإنسان من الحزن والفرح، فقد جاءت الأذكارُ شاملةً لذلك جميعًا، تُعالجه من جميع هذه النَّواحي، في كل أحواله، في كل تقلُّباته، في كل أموره، ومن هنا سمَّى بعضُ المصنفين للأذكار، مَن ألَّف في ذلك سمّوها: بعمل اليوم والليلة؛ لأنها أعمال تنتظم أحواله في يومه وليلته.
فليس هناك وقتٌ للمسلم ولا حالٌ من أحواله في ليله أو نهاره إلا وللشَّارع فيه هدايات عليه أن يهتدي بها، فيبقى بذلك متَّصلًا بربه -تبارك وتعالى-، لا يغفل عنه طرفةَ عينٍ، فيكون قيامُه بالله، وتحوله، وانتقاله بالله، وتقلبه في أموره وشؤونه، وطلب الرزق، أو في طلب البُرْء والعافية إذا اعتراه المرض، أو في جهاده لعدوه، إلى غير ذلك من الأحوال؛ أن يكون ذلك جميعًا لله، وفي الله، وبالله، فتبقى الصِّلةُ وثيقةً، لا سيّما إذا تذكرنا ما سبق مما تقرر من كون الذكر يشمل ما يصدر عن اللِّسان بأنواعه: من دعاءٍ، وتلاوةٍ، وثناءٍ، ووصفِ المعبود -جلَّ جلاله- بما يليق به، وما إلى ذلك من إنشاء الذكر: كالتَّهليل، والتَّكبير، والتَّسبيح، إضافةً إلى مُواطأة القلب لذلك، وهو الأصل، مع ما يكون في القلب من تعظيم المعبود ، واستحضار مُراقبته -تبارك وتعالى-، واستحضار الامتثال عند الفعل أو التَّرك، فلا يأتي بالعبادة والطَّاعة من أجل مُوافقة العادة والإلف، أو غير ذلك مما قد يعتري نيَّته، أو يحمله على العمل -على الفعل أو الترك- من غير استحضارٍ للامتثال والتَّعبد لله -تبارك وتعالى-.
فتكون بهذا -أيها الأحبة- جميع حركاتنا وسكناتنا كلّها عبودية لله -تبارك وتعالى-، تكون له ذكرًا، فإذا صدرت أعمال الجوارح، وأقوال اللِّسان، وأحوال القلب وأعماله، إذا كان ذلك كلّه يرتبط بالله -تبارك وتعالى-، ويتوجّه إليه، فذلك جميعًا من الذكر: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163].
فهنا قبل أن يعمل الإنسانُ يستحضر النية، وحينما يعمل يستصحب هذه النية، وبعدما يعمل يستحضر منةَ الله عليه؛ حيث وفَّقه، وهداه، واجتباه، ودلَّه، ثم هو بعد ذلك أيضًا يكون بفعله هذا الذي قد فعله بجوارحه، أو بقوله الذي قاله: من تلاوةٍ، وذكرٍ، وثناءٍ، كل ذلك هو في عبوديةٍ يُزاولها بقلبه، ولسانه، وجوارحه.
وهكذا حينما يتفكَّر في آلاء الله -تبارك وتعالى-، يتفكَّر بنِعَمِه، أو يذكرها بلسانه، أو حينما يتفكَّر في حكم التَّشريع، فهو في عبادةٍ دائمةٍ، لا سيما أنَّ القلبَ لا يتوقف من الفكر، والخواطر، والإيرادات، وما إلى ذلك، فعبوديته يمكن أن تكون مستمرةً.
ثم إنَّ العبدَ إن لم يكن يُزاول عملًا بيديه وجوارحه، أو بلسانه؛ فإنَّه ينويه ويقصده، فيكون ينوي الطَّاعة والعبادة بصورةٍ مُستمرةٍ، وبهذا يكون كما يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله-: إن هُدِيَ إليه ووُفِّقَ وحصل ذلك له فذلك عبادة يعملها ويُزاولها، فإن لم يحصل له ذلك بلَّغه اللهُ منازلَ العاملين، فحصل له الأجرُ كأنما عمله.
فنحن نحضر النيات قبل العمل، وفي أثناء العمل، وبعد العمل بصورٍ متنوعةٍ، بصورٍ مُتعددةٍ، مختلفةٍ؛ من أجل أن تكون سائرُ أحوالنا -أيها الأحبة- كل ذلك لله وبالله، فيكون المؤمنُ عابدًا لله حقًّا.
ومن هنا لا يأتي شيئًا أو يذر إلا أن يكون ذلك من محابِّ الله -تبارك وتعالى-، أو من مساخطه، يعني: فيما يتركه، ومن هنا يكون قد استسلمت جوارحُه بعد أن استسلم قلبُه، فيتحقق له الإسلامُ الصَّحيحُ، الإسلام الكامل.
ونحن حينما نتأمَّل عبارة شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما يقول: "ما زلتُ أُجدد إسلامي كل يومٍ، أو كل حينٍ"[1]، كنتُ أعجب من مثل هذه العبارة، وأظنّ أنها تُقال على سبيل التَّواضع، ولكن كلَّما أُعيد النَّظر والفكر، وأُقلِّب هذه العبارة، وأنظر في مدلولاتها؛ أُدرك أنَّ هذه العبارة هي عين الصَّواب، إذا تصورنا هذا المعنى الكبير للذكر، وهذه العبودية الحقّة؛ يجد العبدُ دائمًا أنَّه تحصل له أحوالٌ من غفلةٍ، وتصدر أعمالٌ لربما لا تكون النيةُ فيها مُنضبطةً، وقد يقصر عن واجباتٍ، أو عن مُستحبَّاتٍ، أو ألا يكون أمره جميعًا لله -تبارك وتعالى-؛ فيحصل له بسبب ذلك شيءٌ من التَّخليط الذي يُوجب نقصَ مرتبته، ومن هنا يحتاج العبدُ دائمًا إلى أن يُجدد إيمانه، أن يُجدد إسلامه؛ من أجل أن يُحقق هذا المعنى الذي خُلقنا من أجله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
إذًا كل الحياة من أوَّلها إلى آخرها عبادة وقُربة إلى الله -تبارك وتعالى-، وهنا يقدم على ربِّه -تبارك وتعالى- بأعمالٍ وافرةٍ، وتجاراتٍ رابحةٍ، لا يُقدم عليه إقدامَ المفاليس.
ومن هنا -أيها الأحبة- كان الذكرُ بأنواعه هذه هو روح العبادة، بل إنَّ حقيقةَ العبادة تدور على الذكر، فهو يشمل ذلك جميعًا، جميع الذي يصدر من الإنسان: من قلبه، ولسانه، وجوارحه، وهذه هي العبادة، تنقسم على هذه الأنحاء الثلاثة، وتتعلَّق بها، وتصدر عنها.
ومن هنا فإنَّ هذه الأعمال جميعًا هي من قبيل الذكر بهذا الاعتبار، كما أنَّ ذكر القلب إن حصل مع العبادات -كما سيأتي- التي نُؤديها بألسنتنا، أو التي نعملها بجوارحنا؛ فذلك الذي يُتمّمها ويُكملها، بل قد يتوقَّف تصحيحها على ذكر القلب، وذلك بإحضار النية، ولكن حينما يستحضر العبدُ مُراقبةَ الله عند فعلها: عندما يُصلي، عندما يتصدَّق: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، حينما يستحضر أنَّ الله هو الذي يمنُّ عليه، ويخاف حينما يتصدَّق، أو يعمل عملًا صالحًا، أو يحجّ، يخاف أن لا يُتقبل ذلك منه.
ليست القضيةُ أنَّ الإنسانَ يشتري أضحيةً يُباهي بهذه الأضاحي، فيُضحي أهلُ البيت لربما بعشرٍ من الأضاحي، ليست القضيةُ أن أحجَّ بحملةٍ مرموقةٍ، ثم بعد ذلك أتحدث عن هذا في كل مناسبةٍ: أني حججتُ مع الحملة الفلانية، ذات القيمة العالية التي لربما يتقاصر دونها أكثر الناس، ليست العبرةُ بهذا، العبرةُ هي بما يقوم بهذا القلب عند هذه الأعمال، ليست القضيةُ أن يحجَّ الإنسانُ من أجل أن يُكمل رقمًا في العدد، يكمله أنَّه حجَّ عشرًا، أو حجَّ عشرين، أو حجَّ ثلاثين، وأنَّ العداد مُستمر، ثم ماذا؟
العبرة بالقبول، العبرة بالإخبات، العبرة بأن يُؤدَّى هذا العملُ على الوجه المشروع ظاهرًا وباطنًا، فهذا هو المخبِت، هذا هو العابد، هذا هو الذاكر لله -تبارك وتعالى- حقًّا.
هذه معاني نحتاج إلى استحضارها، نحن نغفل كثيرًا، نحن نتحدَّث عن أشياء -أيها الأحبة- هذه الأيام نغفل سريعًا، نتحدث عن الأضاحي أين توجد الأضاحي الجيدة ذات الثمن الأقل؟ أين النُّسك الذي لا يجب معه الهدي؟ أهكذا تكون التِّجارةُ مع الله -تبارك وتعالى-؟! أهكذا يكون حالُ الذاكر لربه ظاهرًا وباطنًا؟!
أبدًا -أيها الأحبة- ليس الأمرُ كذلك، فهذا الذكر -أيُّها الأحبة- يُصحح العبادة والعمل: عمل اللِّسان والجوارح، كما أنه يُكمل ذلك أيضًا، فيأتي مع ما يقوم بالعبد من استحضار المعاني السَّابقة، تأتي العبادةُ بحالٍ من الكمال، وهذا سيأتي له مزيدٌ من الإيضاح -إن شاء الله تبارك وتعالى.
ولهذا قال الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، هذا يُبين لنا منزلةَ هذا الذكر؛ فالصَّلاة إنما تُقام -اللام هنا للتَّعليل على الأرجح- الصلاة إنما تُقام لأجل إقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: إنما جُعِلَ الطَّوافُ بالبيت، وبين الصَّفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله تعالى[2]، ولك أن تقول: إنما جُعلت الأضاحي والنَّسائك والهدي لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36]، فمثل هذا -أيُّها الأحبة- كلّه من أجل إقامة ذكر الله .
ولما قال الله -تبارك وتعالى-: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، "إنَّ" هنا تُفيد التَّعليل، كأنَّه يقول: لأنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر، بعدها قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، العلماء قالوا فيه أقوالًا متعددةً، من أقربها ما ذكره الحافظُ ابن القيم، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أنَّ الصلاةَ اشتملت على أمرين:
الأول: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا أمرٌ عظيمٌ.
والأمر الثاني: وهو ما فيها من ذكر الله -تبارك وتعالى-، وهو أكبر وأعظم من الأول، بل هو ينهى أيضًا[3]، وهو أولى -كما قال بعضُ أهل العلم- في النَّهي عن الفحشاء والمنكر، وبين المعنيين مُلازمة، كما لا يخفى.
فذكر الله في هذه الصَّلاة، وهكذا في سائر الأعمال؛ تتفاضل أعمالهم بحسب ما يقوم في قلوبهم، وبحسب ما يتحقق لهم من الذكر في هذه الأعمال، وسيأتي أنَّ أفضل الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله في صومهم، وأفضل المتصدِّقين أكثرهم ذكرًا لله ، وأفضل الحجيج أكثرهم ذكرًا لله -تبارك وتعالى-، وهكذا في سائر الأعمال، وهذا سيأتي إيضاحُه -إن شاء الله.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
- انظر: "المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/143).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب المناسك، باب في الرمل، برقم (1888)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (2056).
- انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (75).