الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أسير بن عمرو -ويقال: ابن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن -والأمداد جمع مدد، والمقصود به ما كان يأتي من الأجناد مدداً لجيوش المسلمين- سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس ، يعني: في كل مرة يسأل: أفيكم أويس بن عامر؟ كلما جاء مجموعة من هؤلاء الأمداد، حتى وقف عليه.
فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ يعني: من قبيلة مراد، ثم من قَرَن؟، يعني: قَرَن فخذ من قبيلة مراد، أو بطن من قبيلة مراد، يعني: القَرَني المرادي، لكن لو قال: من قَرَن من البداية لعُرف أنه من مراد؛ لأن قرن من مراد، ولذلك يُذكر الأعم، ثم يذكر بعده الأخص.
قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرَأت منه إلا موضع درهم؟ أراد أن يتأكد أن هذا هو المقصود، قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل فأتى أويسا، فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح، فاستغفر لي. قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس، فانطلق على وجهه.
أي بار، وهذا من دلائل نبوته ﷺ؛ لأنه في زمانه ﷺ ما كانت تأتي أمداد اليمن، وأويس بن عامر هذا في عداد التابعين، ولم يلقه النبي ﷺ، فذكره بوصف لا يخطئه.
قال: لو أقسم على الله لأبره، يعني: لو أنه حلف أن يكون كذا، أو أن لا يقع كذا، أو قال: أقسم عليك يا رب بكذا وكذا فإن ذلك يقع، بمعنى أن الله يبر قسمه.
لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، يعني: يدعو لك، يطلب لك المغفرة من الله ، فقال له عمر : فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة... إلى آخره.
لاحظوا هنا في هذا الحديث أن النبي ﷺ ذكر صفة واحدة في عمل أويس القرني وهي البر بأمه، ما ذكر عبادات، وأعمالا، وصدقات، وقيامًا، وصيامًا، فدل ذلك على عظم بر الوالدين، وأن الإنسان يبلغ به المراتب العالية.
قال: لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، هذا لا يدل على أن أويس القرني أفضل من عمر ، فعمر أفضل منه، ولكنّ أويساً القرني له هذه المزية، أن النبي ﷺ ذكره بهذه الصفة، وقال لعمر: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل.
والقاعدة: "أن المزية لا تقتضي الأفضلية"، فأويس له مزية، لو أقسم على الله لأبره، لكن ليس بأفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة ، فالمزية لا تقتضي الأفضلية، فعلي هو أبو السبطين، وهو زوج فاطمة، وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: أمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟[2]، ومع ذلك ليس بأفضل من أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان.
فالمزية لا تقتضي الأفضلية، وعمر ذكر له النبي ﷺ مناقب، إذا سلك فجًّا أو طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر[3]. إلى آخر ما جاء في صفته، ومع ذلك فإن أبا بكر أفضل منه.
فالشاهد هنا أن المفضول قد توجد فيه مزية لا توجد في الفاضل، وكذلك لا يمنع من أن يدعو المفضول للفاضل، أو أن يطلب الفاضل من المفضول أن يدعو له.
لكن هل يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان يشرع له أن يطلب من غيره أن يدعو له، أو أن هذا خاص بأويس القرني؟
من أهل العلم من أخذ من هذا الحديث مشروعية طلب الدعاء من الغير، ومن أهل العلم من قال: هذا خاص بأويس، زكاه النبي ﷺ، وذكر صفته، ووجّه عمر بهذا، وإلا فإن الأصل أن يدعو الإنسان لنفسه، وهو متعبد بهذا، والله يحب الدعاء، والانكسار، والافتقار إليه، وإذا طلب الإنسان من الآخرين أن يدعوا له يكون قد وكل إليهم ذلك، ويكون فيه نوع افتقار إليهم، والإنسان لا يفتقر إلى الخلق، وإنما يكون فقره إلى الله -عز وجل، فلا يطلب منهم شيئاً حتى الدعاء.
هذا قال به جماعة من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، ليس معنى ذلك أنه يحرم، لكن قالوا: هذا هو الأفضل والأكمل، ألا يطلب الإنسان من الآخرين، قالوا: وهذا فيه تزكية لهذا المطلوب منه، تقول له: ادع لي، كأنك تزكيه، أن له منزلة عند الله ، وقبولا ونحو ذلك.
وعلى كل حال فعمر قال: فاستغفر لي، وهذا يدل على تواضع عمر ، وهو الخليفة، وله المناقب المعروفة.
ثم قال له عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة.
الكوفة البلد المعروف، سميت بذلك لاستدارتها، كانت مستديرة في تخطيطها وبنيانها، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ يعني: إلى الأمير، بحيث إنه يكون لك عطاء، ونحو ذلك، يعني: مزية، أو نحو هذا.
قال: "أكون في غبراء الناس أحبّ إلي"، معنى في غبراء الناس: الغبراء هي الأرض، ويقال للفقراء: بنو الغبراء، فهؤلاء خلاف أهل النعمة والجاه والمراتب الدنيوية العالية، ونحو ذلك.
ففي غبراء الناس يعني: في أهل الحاجة، والضعفاء، والفقراء، والمساكين، ونحو ذلك.
قال: "أحبّ إلي" وهذه الأشياء بلغت بالرجل، ما أحب أن يُميَّز، وأن يعرف، لم يقل: عمر عرف قدري، وعرف منزلتي، وأين أجد مثل هذه الفرصة.
قال: "أكون في غبراء الناس أحبّ إلي"، فهل نحن كذلك، الإنسان يحب أن يكون في غبراء الناس، ما يحب إذا جاء إلى مكان أن الناس يقدمونه على الآخرين، ويجعلونه في صدر المجالس، ونحو ذلك؟.
فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشراف أهل الكوفة، فوافق عمر فسأله عن أويس، أويس تصغير أوس، يقال: إنه اسم للذئب الذي هو أوس.
فقال: تركته رثَّ البيت، قليل المتاع، معنى رث البيت يعني: رث متاع البيت، أي أن أمتعته بالية خلِقَة، ليست بتلك في جودتها وجِدتها، ونحو ذلك.
قال: قليل المتاع، وهذا يدل على زهده، وإعراضه عن مظاهر الدنيا، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، عمر يقول للرجل الذي جاء من الأشراف، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، يعني: كأن عمر يقول للرجل ذلك، فأتى أويساً، هذا الرجل الشريف جاء إلى أويس فقال: استغفر لي، قال -وهذا يدل على تواضع أويس- "أنت أحدث عهداً بسفر صالح"، يعني: أنت الآن أتيت من أين؟ أتيت من أرض الحجاز؟ جاء في الموسم، وجاء للحج، فلقي عمر ، وهذا يدل على أن من سافر سفراً صالحاً أنه حري بأن يستجاب له، فاستغفر لي، أويس يقول للرجل.
فقال الرجل: استغفر لي.
الحاصل أن أويساً شك في أن الرجل عنده خبر من أمره، فقال له: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفرَ له، ففطن له الناس، انتشر الخبر أن هذا الرجل قال فيه النبي ﷺ هذا الكلام، فانطلق على وجهه. رواه مسلم.
معنى انطلق على وجهه، يعني: خرج بحيث لا يعرفه أحد، ولا يراه أحد.
وفي رواية لمسلم أيضاً عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا على عمر وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس، يعني كان يسخر منه لوضاعته، وفقره، ورثاثة ثيابه، ومتاعه.
وكثير من الناس هم عبيد المظاهر، لو رأى بهيمة تلبس ثياباً رفيعة، وعليها ساعة ذات ثمن، أو تركب مركباً رفيعاً لأكبرها وعظمها، ولو رأى من هو أعظم الناس عقلاً وديناً وعلماً، ونحو ذلك، وعليه زي سهل وبسيط ومتواضع، أو مركب متواضع ما يلتفت إليه.
وإذا أردت أن تعرف هذا اركب مركباً فخماً جدًّا، وامشِ في الطرق، كثير من الناس يقف لك عند الدوار ولو كانت الأحقية لهم، وإذا لفيت على أحد ما يتكلم عليك، ولا أحد يرفع رأسه، واركب سيارة تمشي وتهتز وتضطرب في الطريق، تجد لا أحد يقف لك، والأحقية لك، وهذا يتكلم ويرفع يده، وهذا ينظر إليك بنظرات.
والراكب هو نفس الراكب في تلك السيارة، أو بهذه السيارة، لكن من الناس من لا يفقه.
فالحاصل هذا رجل كان ممن يسخر بأويس، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله ﷺ قد قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن، يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض أي برص، فدعا الله تعالى، فأذهبه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر له[4].
وفي رواية له عن عمر قال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس..[5].
خير التابعين، مع أنه جاء عن بعض أهل العلم كالإمام أحمد أن أفضل التابعين سعيد بن المسيب، وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري، ونحو هذا.
فأفعل التفضيل لا تقتضي التفضيل مطلقاً، يمكن أن يشترك معه في هذه الدرجة آخرون، يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس، له والدة وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم.
هذا، وأسأل الله أن يلحقنا وإياكم بركابهم، وأن يغفر لنا ولكم ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أويس القرني (4/ 1969)، رقم: (2542).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب (4/ 1870)، رقم: (2404).
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (5/ 11)، رقم: (3683)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر (4/ 1863)، رقم: (2396).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أويس القرني (4/ 1968)، رقم: (2542).
- المصدر السابق.