الأحد 27 / جمادى الآخرة / 1446 - 29 / ديسمبر 2024
‏(23) إِنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ، لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ. آخر التلبية
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 4505
مرات الإستماع: 4110

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أيُّها الأحبة، هذه التَّلبية التي يلهج بها العُمَّارُ والحجيجُ مشتملةٌ على الحمد الذي أهله هم أفضل الناس يوم القيامة، كما صحَّ ذلك عن النبي ﷺ.

"إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك" فهذا الحمد من أجلِّ القُربات التي يتقرب بها إلى الله ، وهو فاتحة الصلاة، وخاتمتها: "سبحانك اللهم وبحمدك"، وكذا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وفي آخرها: "إنَّك حميدٌ مجيدٌ".

ثم إنَّ هذه التَّلبية تتضمن أيضًا الاعتراف لله -تبارك وتعالى- بالنِّعمة كلِّها، من أوَّلها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، فكل النِّعَم منه وحده لا شريكَ له.

"إنَّ الحمد" فـ(أل) هذه الدَّاخلة على الحمد للجنس، فكل الحمد لله ، والنِّعمة كلّها لله -تبارك وتعالى-، فهو مُوليها ومُسديها، ومن ثمَّ فإنَّه هو المستحقّ وحده أن يُحْمَد عليها، وأن يُعْبَد، ولا يصحّ بحالٍ من الأحوال أن تُوجّه العبادة إلى غير المنعم المتفضّل؛ فإنَّ ذلك من أعظم الظلم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

فهذه النِّعَم اللهُ -تبارك وتعالى- امتنَّ بها على عباده، ومن هذه النِّعَم: أن وَفّق العبد للإيمان، وأن وفَّقه للحجِّ، ويسَّر ذلك له، فينبغي أن ينخلع بذلك من النَّظر إلى جهده وماله ونفسه وقُدراته وإمكاناته وقوّته ونشاطه، وإنما يعلم أنَّ ذلك جميعًا من الله ، فيزيده إقبالاً على ربِّه، وحمدًا وشكرًا له وعبوديةً على هذه النِّعَم المتتابعة.

ثم إنها أيضًا تشتمل على الاعتراف والإقرار بأنَّ الملكَ كلَّه لله -تبارك وتعالى-: "إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك"، فلا ملك على الحقيقة لغير الله .

ثم أيضًا قد جاء تأكيد ذلك بهذه التَّلبية التي نُلبي بها: "إنَّ الحمدَ"؛ فـ(إنَّ) هنا تدل على التوكيد، وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين: "إنَّ الحمد والنِّعْمَةَ لك والملك"، فهو يُؤكِّد هذا، فكيف يصدر منه ما يكون مُقتضاه أنَّ النِّعَم أو الحمد أو الملك يكون شيءٌ من ذلك لغير الله -تبارك وتعالى-؟!

ثم أيضًا حينما نقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمةَ لك والملك"؛ (إنَّ) هذه مُؤكّدة، وهي تدل على التوكيد إذا كانت بالكسر: "إنَّ الحمدَ والنِّعْمَةَ لك والملك"، فهذه جملة جديدة أخرى: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك"، فهو يُقرّ بأنَّ الحمد والنِّعمة له، والملك له وحده.

وضبطه بعضُهم بالفتح: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، أنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والملك"، بمعنى التعليل، يعني: لأنَّ الحمد لك والملك، فهو يقول: لبيك إجابةً لك بعد إجابةٍ، لا شريكَ لك لبيك؛ لأنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، فأنا أُجيبك إجابةً بعد إجابةٍ؛ لأنَّك المستحقّ لذلك، وكل واحدٍ من هذين الاحتمالين له فائدة ودلالة.

فإذا كان بالكسر: "إنَّ الحمد والنعمة"؛ فإنَّ تكرار الجمل في مقام الثَّناء أبلغ: "إنَّ الحمد والنِّعمة"، فهذه جملةٌ جديدةٌ، وإذا كان ذلك للتَّعليل فهو يقول: إنما أُجيبك إجابةً بعد إجابةٍ؛ لأنَّك المستحقّ وحدك دونما سواك، فهذا كلّه صحيحٌ، ولا إشكالَ فيه -والله تعالى أعلم-.

وهذا كقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، ثم قال: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28]، فعلى قراءة الجمهور بكسر (إنَّه): إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فهذه جملةٌ جديدةٌ، مع أنَّ (إنَّ) هذه وفي الحديث تدل على التَّعليل، يعني: المعنى فيها ارتباطٌ بالكسر، وأيضًا بالفتح: أنَّ الحمدَ؛ لأنَّ الحمد: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ جملة جديدة، و(إنَّ) تُشعر بالتَّعليل، أي: "لأنَّه أيضًا"، وهكذا على الفتح: (إنَّا كنا من قبل ندعوه أنَّه هو البرُّ الرَّحيم)، وهي قراءة مُتواترة لنافع والكسائي[1].

وهذه التَّلبية أيضًا -أيُّها الأحبة- قد جمعت بين الإخبار بأنَّ النِّعمةَ والملكَ والحمد، كلّ ذلك لله -تبارك وتعالى-، فإضافة هذه الأمور على سبيل الاستقلال والانفراد لله -تبارك وتعالى- هذا كمالٌ، فالملك لله، والحمد لله، والنِّعمة لله، واجتماع هذه فيه كمالٌ آخر -كما ذكرنا في مجالس الأسماء الحسنى- فله -تبارك وتعالى- هذان النوعان من الثَّناء والكمال حال انفراد هذه الأوصاف بإضافتها إليه ، وفي حال الاجتماع، فيكون كمالاً مُركَّبًا، فالملك وحده كمال، والحمد كمال، وإذا اقترن ذلك بالآخر كان كمالاً مُركَّبًا.

فالملك الذي يتضمن القُدرة إذا اجتمع مع النِّعمة التي تتضمن النَّفع والإحسان والبرّ؛ فإنَّ هذا كمالٌ آخر، هذا ملكٌ مع إحسانٍ ورحمةٍ، فهذا أكمل من الملك المجرد، ملكٌ مع إحسانٍ، ملكٌ مع إفضالٍ، ملكٌ مع رحمةٍ بهؤلاء الخلق، فالله -تبارك وتعالى- يُنْعِم عليهم، ويتفضَّل، ويُحْسِن؛ وذلك من مُقتضيات رحمته -تبارك وتعالى-، ومن آثارها، فإذا جاء الحمدُ الذي يتضمن الجلالَ والإكرام، والذي يدعو النفوسَ إلى محبة هذا المحمود، الذي إنما يُحمد على كمالاته المطلقة، فإذا اجتمع هذا وهذا فإنَّ ذلك يقتضي إقبال القلوب عليه، فتُحبّه وتعبده.

وكذلك أيضًا حينما تقترن هذه الأوصاف: كالغنى والكرم مثلاً؛ الغنى كمالٌ، والكرم كمالٌ، لكن لما يكون غنيًّا كريمًا: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]، فهو كريمٌ في غناه، والمخلوق قد يكون غنيًّا، لكنَّه لا يكون كريمًا، فإذا وُجد الغنى مع الكرم فهذا كمالٌ آخر.

وكذلك اقتران العزّة بالرحمة: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:9]، فالعزّة كمالٌ، والرَّحمة كمالٌ، فإذا كان مع عزَّته رحيمٌ، فهذا كمالٌ آخر.

وهكذا العفو مع القُدرة: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، فهذا كمالٌ آخر، إلى غير ذلك.

ثم إنَّ هذه التَّلبية مُشتملة صراحةً على كلمة التوحيد: "لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك"، وأيضًا قد دلَّ عليها بعض الجمل دلالةً غير صريحةٍ في هذه التَّلبية، النبي ﷺ يقول: خيرُ الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير[2]، فإذا قلتَ في التَّلبية: "لا شريك لك" فهذا هو التوحيد، وإذا قلتَ أيضًا: "إنَّ الحمد والنِّعمة لك" يعني: ليست لأحدٍ سواك، فهذا أيضًا يتضمن التوحيد.

وهكذا أيضًا في إثبات الملك لله -تبارك وتعالى-، فلو كانت بعضُ الموجودات خارجةً عن ملكه وقُدرته؛ فإنَّ ذلك لا يكون توحيدًا، فحينما يُقال: بعض هذه الموجودات وبعض هذه المخلوقات أوجدها وخلقها غير الله . كما يقوله بعضُ المنحرفين، فهذا خلاف التوحيد.

فهذه الكلمات في التَّلبية تردّ على جميع الطَّوائف المنحرفة من طوائف المشركين بأنواعهم، وكذلك أيضًا تدلّ على الردّ على جميع الطوائف المنحرفة المنتسبة للإسلام، وهذا ظاهرٌ لمن تأمَّله.

وتأمّل أيضًا في هذه التَّلبية، فإنَّه قد جاء فيها عطفُ الملك على الحمد: "إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك"، فهنا قال: "إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك"، ولم يقل: إنَّ الحمد والنِّعمة والملك لك. لكن لما تمَّ الكلامُ: "إنَّ الحمد والنِّعمةَ لك"، ثم قال: "والملك"، يعني: والملك لك. فصار هذا في الكلام أبلغ، فيصير الكلامُ في جملتين، وهذا أبلغ من عطف "الملك" على "الحمد والنِّعمة"، وغير ذلك من الدّلالات واللَّطائف والفوائد التي تضمنتها هذه التلبية.

تأمّل مثلاً أنَّه لما عطف النِّعمةَ على الحمد، ولم يفصل بينهما: "إنَّ الحمدَ والنِّعمة"، ولم يقل: إنَّ الحمدَ لك والنِّعمة لك. فهذا يدل على الملازمة بين الحمد والنِّعمة، فالإنعام والحمد قرينان.

ثم تأمّل أيضًا ما جاء فيها من تكرار وإعادة الشَّهادة له بأنَّه لا شريكَ له: "إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك"، فـ"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك" في أوَّلها، يقول: أُجيبك إجابةً بعد إجابةٍ، من غير التفاتٍ إلى مَن سِواك، أُجيبك إجابةً بعد إجابةٍ، مُتوجِّهٌ إليك وحدك، فهذه الأولى: "لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك"، ثم لما أضاف له النِّعمةَ والحمدَ: "إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك"، فهنا لا شريكَ لك في الحمد والنِّعمة والملك، فكل ذلك لك وحدك دونما سواك، كما في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، ثم أعاد: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فهنا في أول الآية أخبر أنَّه لا إله إلا هو، فهذه شهادته -تبارك وتعالى-، وشهادة الملائكة، وشهادة أهل العلم: بأنَّه واحدٌ لا شريكَ له، ثم أخبر عن قيامه بالقسط؛ وهو العدل، فأعاد الشَّهادةَ بأنَّه لا إله إلا هو، مع قيامه بالقسط: قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

هذا ما يتعلَّق بهذه التَّلبية، وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا -والله أعلم-.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

  1. "السبعة في القراءات" لابن مجاهد (ص613)، و"حجّة القراءات" لابن زنجلة (ص683).
  2. أخرجه الترمذي: كتاب الدَّعوات، باب في دعاء يوم عرفة، برقم (3509)، وحسَّنه الألباني.

مواد ذات صلة