الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب إجراء أحكام الناس على الظاهر أورد المصنف -رحمه الله-:
هذا الحديث هو في واقعة حصلت لأصحاب النبي ﷺ حيث قتل أسامة بن زيد رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وفي الحديث الذي قبله كما ذكرنا في الليلة الماضية أن المقداد بن الأسود سأل النبي ﷺ عن حكم رجل حينما التقى المسلمون بالكفار فاقتتلوا، فيقول: فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟[1]، وتكلمنا عن السؤال عن الأمور التي لم تقع، وما جاء من كراهة ذلك، ووجه الجمع بين هذه النصوص، وهذا أمر -كما قلنا: يقع، ووقوعه قريب، ولذلك جاء في الحديث الآخر لما بعث النبي ﷺ بعثاً إلى الحُرَقَة من جهينة، والحُرَقَة: هم بطن من جهينة القبيلة المعروفة من قضاعة، بطن منها، قال: إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم على مياههم، يعني: أتيناهم في وقت الصباح، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبي ﷺ، في بعض الروايات أنه طعنه بالرمح، ثم بعد ذلك تتابعوا على ضربه حتى مات، ويقول: فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبي ﷺ، وسيأتي في الحديث الذي بعده أنه لما جاء البشير إلى النبي ﷺ، يعني بما حصل لهم من الفتح والمغنم، أخبر النبيَّ ﷺ عن ذلك، وفي بعضها أن أسامة بن زيد هو الذي سأل النبي ﷺ عما حصل له، ويمكن أن يكون البشير جاء بهذا وأخبره، وأن أسامة زوّر في نفسه، وحدّث نفسه بأن يسأل النبي ﷺ إذا لقيه، فلما لقي النبي ﷺ كان البشير قد سبقه بالخبر، فذكر ذلك للنبي ﷺ، يقول: فقال لي: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم[2]، متفق عليه.
ومعنى أنه تمنى ذلك ليس مقصوده أنه تمنى لو كان كافراً، لا، وإنما مقصوده أنه تمنى لو أن ذلك وقع منه قبل دخوله في الإسلام؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله، بحيث لا تكون هذه المعصية والذنب العظيم قد وقع منه بعد إسلامه، وقتل النفس لا شك أنه أمر عظيم، والله يقول: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]، فهذا ليس بالشيء السهل، ولكن أسامة بن زيد كان متأولاً، يعني: أنه فعل ذلك لا قصداً لقتل أحد من المسلمين، وإنما فعله لأنه اعتقد أن هذا الرجل إنما قالها خوفاً من السيف، وليس صادقاً في دعوى الإيمان أو قول: لا إله إلا الله، من هذا الباب، ولهذا لم يقتص منه النبي ﷺ، لم يأتِ بأهل ذلك القتيل ويخيرهم بين القصاص أو الدية أو العفو، لهذا السبب: التأول، كان متأولاً.
وفي رواية فقال رسول الله ﷺ: أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟، قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح، هذا معنى "متعوذاً"، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟[3]، يعني: حتى تعلم أقالها خشية السلاح أم لا، هذا التقدير، وهذا هو الشاهد في هذا الباب، أن الإنسان يحمل الناس على الظاهر، ولا يؤمر بأن يشق عن قلوبهم، حسابهم على الله -تبارك وتعالى- كما سبق، "فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ"، وهذا يفسر معنى الجملة السابقة في الرواية التي مضت، يقول: "حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"، يعني: أنه أسلم بعد هذه الحادثة، وهذا واضح، يقول: الحُرَقَة: بطن من جهينة، القبيلة المعروفة.
وهناك حديث آخر أورده بعده وهو:
ونحن عرفنا من قبل أن البعث هو الجيش القليل، يعني: لا يبلغ الألف، بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين، وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، يعني: رجل لشدة حذقه بالقتال إذا قصد أحداً فإنه يتمكن منه، هذا الرجل مشرك، بعض العلماء يقول: إن هذا الحديث هو نفس الحديث السابق، الذي وقع مع هذه القبيلة أو هذا البطن وهم الحُرقة من جهينة، وبعضهم يقول: لا، هذا وقع في بعض ساحل اليمن، وكان قائد الجيش في هذا هو عبد الله بن غالب الليثي ، وقائد الجيش في قصة الحُرقة هو أسامة بن زيد، وقد تكون هذه الواقعة واحدة إذا كان ذلك الذي قَتل كما سيأتي هو أسامة بن زيد؛ لأنه لا يمكن أن يكررها أسامة مرة أخرى، بعد العتاب الذي حصل، فما يمكن أن نقول: لعل القضية تكررت مرتين، وأنه حصل له مرة كذا، وحصل له مرة أخرى؛ لأنه تلقى درساً كافياً، فالشاهد هنا يقول: إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وأن رجلاً من المسلمين قصد غفلته، وكنا نتحدث أنه أسامة بن زيد، إن كان فعلاً هو أسامة بن زيد فهي واقعة واحدة، فلما رفع عليه السيف، قال: لا إله إلا الله، طبعاً في الحديث السابق حديث أسامة بن زيد أنه طعنه، ويمكن أن يكون طعنه ورفع عليه السيف، يمكن أن يكون رفع عليه السيف ثم طعنه لما اتقاه، لكن في حديث أسامة السابق أنهم لما جاءوا إليهم على مياههم كما جاء في بعض رواياته أنهم فروا، فأدركوا رجلاً منهم هذا الذي قُتل، لكن هنا فيه أنهم التقوا، يقول: وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين..، صار هناك لقاء، لكنه في الحديث السابق قال: فنذروا بهم، يعني صاحوا وضجوا، فيمكن أن يكون القوم قد تلاحقوا واجتمعوا، وانضم إليهم غيرهم، ثم بعد ذلك حصل اللقاء، لكنهم في أول الأمر فروا، الشاهد أنه يقول: وكنا نتحدث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله، فجاء البشير إلى رسول الله ﷺ، فسأله وأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فسأله فقال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟، قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟، فجعل لا يزيد على أن يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله؟[1]رواه مسلم، مع أن أسامة بن زيد هو حِبّ رسول الله ﷺ، لكنه لم يستغفر له، فكيف بالذي يأتي إلى قضية ليس فيها هذا التأويل؟!، هذا رجل الآن كافر، وقال: لا إله إلا الله بعدما قتل من المسلمين، فكيف لمن يعمد إلى أناس من المسلمين فيقتلهم، يقتلهم لأنه يختلف معهم، أو لأن هؤلاء ينافسونه مثلاً، أو لأنه يرى أن هؤلاء من السيئين، أو أنهم فعلوا، وأنهم تركوا، أو، أو، أو إلى غير ذلك من الأمور، هذا لا يحل له أن يقتلهم، أو أن يأتي ويقتل، أن يقصد إلى قتل بعض الذين يمكن أن يقال: له عهد من أهل الكتاب في بلاد المسلمين، على الأقل لو لهم عهد من رجل واحد من المسلمين، من عامة المسلمين، فيقتل هؤلاء ويقتل معهم مسلمين، ويقول عن هؤلاء الذين يُقتلون من المسلمين: يبعثون على نياتهم، هكذا بكل بساطة، يعني يدمر مكانًا بكامله وفيه من المسلمين، ويقول: يبعثون على نياتهم، أي هؤلاء المسلمين، ما الذي يُحل هذا؟ يعني هذا رجل واحد كان من المشركين، والنبي ﷺ يقول لأسامة هذا، وهو يقول: حتى تمنيت أني لم أسلم، فمسألة الدماء والخوض فيها أمر ليس بالسهل، ينبغي على الإنسان أن يتعقل فيما يأتي وما يذر، وهذا كله يدل على أن الناس يحملون على الظاهر، وتُوكل سرائرهم إلى الله ، لم نُبعث محاسبين للناس، وإنما نحن نبلغهم دين الله ، ونعلمهم وندعوهم، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، فالحدود لها من يقيمها، وليس ذلك لآحاد الناس، وأحكام الردة لها من يقيمها وليس لآحاد الناس، وإنما على من يدعو إلى الله أن يبلغ ويُعّلم بالتي هي أحسن، ويترك حساب الناس على ربهم ، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، (1/ 97)، برقم: (97).