الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الخوف أورد المصنف -رحمه الله-:
الميل الذي هو مسافة الأرض بمقدار أربعة آلاف ذراع، والميل الذي يكحل به العين الحديدة التي تكون في المكحلة، هل بُعد الشمس عن رءوس الناس بهذا المقدار، يعني بمقدار أقل من أصبع؟، أو المقصود ميل الأرض الذي هو أربعة آلاف ذارع، وهو منتهى البصر، وهي مسافة أيضاً قريبة جداً، وعلماء الفلك يقولون: لو أن الشمس اقتربت بمقدار يسير عما هي عليه الآن لمات كل شيء على وجه الأرض وهلك واحترق، ولو ارتفعت قليلاً لتجمد كل شيء، فالله جعلها بمقدار، فتنزل يوم القيامة إلى قريب من رءوس الناس، ولكنهم لا يموتون بإرادة الله -تبارك وتعالى.
قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، المشقات التي تلحق الناس في يوم القيامة هي بحسب حالهم وأعمالهم، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْويه، وعرفنا أن المراد معقد الإزار يعني إلى المنتصف، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً، وأشار رسول الله ﷺ بيده إلى فيه، يلجمه أي: يصل إلى الأطراف، ويصل إلى الفم وحدود الأذنين، وهذا بحسب عمل العبد يوم القيامة.
ثم أورد حديث:
المشهور من كلام أهل العلم في تفسيره يذهب أي: في العمق، يغور العرق في الأرض، يصل تحتهم، تشربه الأرض إلى سبعين ذراعاً، الآن إذا نزلت أمطار كثيرة جداً وتتابعت لا يصل منتهى المطر في غالب الأحيان إلى سبعين ذراعاً تحت الأرض، فهذا العرق يسوغ في الأرض سبعين ذراعاً من كثرته، وبعض أهل العلم قال: المراد سبعين ذراعاً أي: يسيل على وجه الأرض، والأول هو الأشهر، وكل ذلك بإرادة الله -تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يقول: إذا كان الناس وقوفاً كيف يتفاوتون هذا التفاوت، هذا يلجمه وهذا إلى كعبيه؟، نقول: الله على كل شيء قدير، وانظروا إلى حال الناس في الدنيا الآن، تجد الناس في المسجد الواحد هذا يتصبب عرقاً، وذلك يشعر بالبرد، هذا مشاهد، هذا إنسان لربما فيه سكر أو فيه بعض الأمراض -عافانا الله وإياكم من كل مكروه، ويشعر بأشياء من الحر أو البرد لا يشعر بها من بجانبه، فهذا في الدنيا نشاهده، فالله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير.
قال: ويُلجمهم حتى يبلغ آذانهم[1]. متفق عليه.
ثم ذكر أيضاً حديثاً آخر:
والمقصود بالوجبة أي: صوت سقطة، صوت سقوط جسم من الأجسام، فقال: هل تدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، وهذا هو الأدب اللائق أن يقول الإنسان لما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وهذا في حياة النبي ﷺ، أما بعد موته فإن ذلك يقال في الأحكام الشرعية، يقال: ما حكم كذا؟ فإذا كان الإنسان لا يعلم، يقول: الله ورسوله أعلم، ولا شك أن النبي ﷺ أعلم الناس بالأحكام، وأما في الأمور العادية فلا يجوز أن يقول: الله ورسوله أعلم، وإنما يقول: الله أعلم، فحينما يقال لك: أين زيد الآن؟ لا تقول: الله ورسوله أعلم، فإن النبي ﷺ لا يعلم أين هو، فلا يعلم ذلك إلا الله -تبارك وتعالى، وهكذا الأمور المختصة بالله سواء في حياة النبي ﷺ أو بعده، وكذلك ما يكون في الغد، لا يقال: الله ورسوله أعلم لما يحصل غداً، أو الله ورسوله أعلم هل الليلة رمضان أو لا، وإنما يقال: الله أعلم، فقال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها، فسمعتم وجبتها[1]، رواه مسلم، هذا الحديث يدل على قعر النار، ولا نستطيع أن نستنتج منه تحديد عمق النار، ولكنه يبيّن أن قعرها بعيد جداً، لاحظوا هذا الحديث قال: هذا حجر رمي به في النار، إذا أردت أن تعرف مقدار القعر لابد أن تعرف السرعة، سرعة سقوط الجسم، عندنا السرعة، وعندنا المسافة كم أربعة آلاف متر؟ عشرة آلاف متر؟ المسافة التي يسقط منها الشيء، عندنا المسافة، وعندنا السرعة، وعندنا المدة، ففي هذا الحديث عرفنا شيئاً واحداً من ثلاثة، عرفنا المدة وهي سبعون سنة، وما عرفنا السرعة وما عرفنا المسافة، ولا يمكن أن تحدد وتستنتج الأمر الثالث -إذا أردت- من هذه الأمور إلا بمعرفة أمرين، يعني إذا أردت أن تعرف العمق كم لابد أن تعرف السرعة والوقت حتى تكتشف العمق، وإذا أردت أن تعرف مثلاً السرعة لابد أن تعرف العمق وتعرف المسافة، ونحن لا نعرف إلا المدة الزمنية فقط، مع العلم أن السرعة تتفاوت باعتبارات شتى، فرق بين أن يطرح الشيء، يعني الآن هذا القلم هكذا بمعنى تركته، تخليت عنه فسقط، تقول: سقط، هنا ما قال: سقط في النار، وما قال: ألقي في النار، وإنما قال: هذا حجر رُمي به، والرمي ما هو إلقاء، هذا الإلقاء تعرفون رمي الجمار يقول الفقهاء: لا يجوز أن يلقيها في الحوض، لابد من الرمي، هذا هو الرمي، فإذا كان الجسم الذي يتردى قد رمي به فسرعته أكثر، ثم كلما كانت المسافة إلى فوق أعلى كلما كانت سرعة الجسم إلى السقوط إلى أسفل أسرع.
وهذا معروف عند أهل الفيزياء، كلما ارتفعت المسافة وعلت كلما زادت السرعة في النزول، ونحن لا نملك المعلومات الكافية لنعرف قعر النار، هذا رمي به، فسرعته أكثر، وقعرها بعيد، فالسرعة تزداد، فتصور مع الارتفاع الشاهق، والرمي بالجسم فإن سرعته تكون شديدة أسرع مما لو هكذا ألقي، لاحظوا الآن هذه المدة التي يستغرقها سقوط القلم، ووصوله إلى الأرض من ارتفاع أقل من متر، فكيف بهذا الحجر الذي رمي به ومن مسافة شاهقة تزداد السرعة معها منذ سبعين سنة؟ من منا عمره سبعون سنة؟ أنا لا أظن أن أحدًا من الموجودين في المسجد تجاوز السبعين، يعني من قبل ما نولد والحجر لا يزال ينزل، أي: حينما قاله النبي ﷺ كان قبل أن يولد ﷺ وقد توفي وله ثلاث وستون سنة.
فتصور مثل هذا يبيّن لك قعر النار، الإنسان لو صعد عمارة ثلاثين أو أربعين طابقًا ونظر من النافذة رأسه يستدير ولا يستطيع أن يقترب منها، لا يستطيع، ولو قيل له: نريد أن تصلح فيها شيئاً تخرج على سلم أو نحو هذا، لا يستطيع، فكيف بالنار يتردى بها سبعين سنة؟ فالذي يُلقى في النار -أسأل الله العافية- حتى يصل إلى قعرها هم الكفار فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ [الشعراء:94]، إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا [الملك:7]، فحينما يلقون فيها يتردون مدة طويلة هائلة إلى أن يصلوا إلى قعرها، تصوروا وهو يسبح في النار، مع ملاحظة أمر وهو أن النار إذا كانت تتوقد لربما يبطِّئ هذا وصول الشيء، يبدأ يتردى يهوي والنار تفور، شيء لا يصل إليه عقل الإنسان.
فينبغي للإنسان أن يعد لذلك اليوم عدته، وعدته ليست بالمال، وليست بالمراكب، ولا بالثياب، ولا بالقصور ولا بالمؤسسات ولا بكثرة الأولاد، ولا غير ذلك، عدته هي العمل الصالح، عدته هي الشيء الذي يدخل معنا في قبورنا فقط، ولا يدخل معنا في قبورنا قلم ولا ثوب ولا ريال، ولا مكتب، ولا سيارة، ولا قصر، ولا غير ذلك، ولكنه اليقين، إذا ضعف اليقين عندنا قل العمل، وما جادت النفوس بمحبوباتها لعمارة آخرتها، وإذا قوي اليقين صار الإنسان يعمر آخرته على الأقل كما يعمر دنياه، الدنيا نعمرها ولا نبخل عليها، لربما ينفق الإنسان على مطاعمه ومساكنه ومراكبه الأموال الطائلة ولا يبخل، يقول: أبخل على نفسي؟، طيب لماذا تبخل على نفسك في الآخرة؟، ولذلك لا يختص الأمر بالمال، وإنما بركعتين في السحر، بصوم يوم تباعد فيه عن النار سبعين خريفاً، وما إلى ذلك.
نسأل الله أن يحرم وجوهنا على النار، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ووالدينا وإخواننا المسلمين، وأن يبلغنا وإياكم رمضان، وأن يتقبل منا وأن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، (4/ 2184)، رقم: (2844).