- مقدمة باب الرجاء
- قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ...}
- قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}
- قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
- قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد وهو باب الرجاء، وهذا الباب ذكره بعد باب الخوف؛ من أجل أن يحصل التوازن في نفس المسلم، فإن الإنسان إذا نظر في نصوص الخوف لربما يغلب عليه اليأس والقنوط من رحمة الله -تبارك وتعالى، وإذا نظر إلى نصوص الرجاء فقط فإنه لربما يغتر بذلك، ثم بعد ذلك يتوسع في الخوض، ويقارف الذنوب والمعاصي دون أن يرعوي؛ اغتراراً بسعة رحمة الله ، ولهذا لابد من التوازن بين الخوف والرجاء، فهما كما يقول العلماء: كالجناحين للطائر، لا يطير إلا بهما، لابد من خوف يردعه ويمنعه ويحجزه عن مقارفة ما لا يليق، فالخوف كالسوط، ولابد أيضاً من رجاء، فالإنسان لابد له من أمل ينبعث في نفسه من أجل أن يعمل ويقبل على ربه -تبارك وتعالى، وذلك لابد منه، فهو كالحادي الذي يحدوه، فالدابة تحتاج لربما إلى ضرب بالسوط، وتحتاج إلى حادٍ من أجل أن تسترسل في سيرها، وتنطلق ولا تتوقف.
والإنسان إذا كان ينظر إلى العقوبات والنصوص الواردة في هذا فإنه لربما يضع ما بيده، ويقعد عن طاعة ربه ؛ لأنه يشعر أنه لا فائدة من العمل، وهكذا الإنسان المغرور الذي ينظر إلى نصوص الرحمة، وإذا قيل له: اتق الله، قال: الله غفور رحيم، الله واسع المغفرة، فالله في القرآن حينما يذكر الوعيد يذكر الوعد، يذكر النار يذكر الجنة، وحينما يذكر ما يخوِّف به عباده أو يذكر من أوصافه ما يخوفهم يذكر ما يرجيهم، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [الحجر:49-50]
فلابد من هذا وهذا، وقد سبق الكلام على هذه المعاني في الأعمال القلبية وذكرنا أقوال أهل العلم، فالمشهور أن الإنسان في حال القوة، والنشاط والصحة يُغلب جانب الخوف ليرتدع، وعند الموت يُغلب جانب الرجاء لقوله ﷺ: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله[1]، والله يقول: أنا عند ظن عبدي بي[2]، فيغلب جانب الرجاء، وقد جاء عن السلف ما يدل على هذا، ومن أحوالهم أيضاً عند الموت والاحتضار، وجاء عنهم أيضاً أشياء تدل على وجود الخوف مع الرجاء.
الرجاء ما معناه؟ الرجاء: يمكن أن يقال: هو أن يؤمل الإنسان الخير، ويترقب ذلك، فهو يرجوه، والشيء إنما يُرجى إذا كان قريب المنال، وأما الشيء المستبعد الذي لا سبيل إليه فإن المتعلق به هو الأماني، ولهذا قال الله على اليهود لما قالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [البقرة:80]، قال: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، فسماها أمنية، وليس ذلك من قبيل الرجاء، فالأمنية تتعلق بالشيء الذي لا يكون ولا يقع.
ألا ليت الشبابَ يعود يوماً | فأخبره بما فعلَ المشيبُ |
والشباب لا يمكن أن يرجع، فهذه أمنية، لكن حينما ترى السحاب قد انعقد فإنك ترجِّي وقوع المطر، تقول: أرجو أن ينزل المطر، فإذاً الرجاء: أن نُؤمل، أن نترقب الخير، نترقب ونؤمل رحمة الله ، فهذا المعنى صحيح، وهو مطلوب شرعاً، لكن بشرط ألا يكون ذلك من قبيل الغرور، الذي يؤمل ويرجي هو الإنسان الذي يعمل، الذي يجتهد في طاعة ربه -تبارك وتعالى، والمقصود أن نصوص الرجاء يحتاج أن يخاطب بها الإنسان الذي لربما كان عنده شيء من القنوط واليأس، عمل ذنوبًا كثيرة، فيحتاج أن تسرد له نصوص الرجاء، أما الإنسان المسترسل في المعاصي ولا يبالي فهذا لا تقال له نصوص الرجاء، هذا تقال له نصوص الخوف، وفي حال الاعتدال فإنه يذكر للناس لاسيما في مقام التعليم، يذكر لهم هذا وهذا ليُبيّن لهم المطلوب شرعاً، وليعرفوا محابّ الله -تبارك وتعالى- فيفعلوها، هذا هو المطلوب.
وهنا صدّر هذا الباب بآيات كالعادة، فقال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ [الزمر:53]، الإسراف: هو الإكثار، أَسْرَفُوا يعني: بالذنوب والمعاصي، لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، القنوط: هو اليأس وانقطاع الرجاء، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فهنا لم يقيد ذلك بالتوبة، وقال: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فـ "إن" هنا تدل على التعليل، وذَكَر هذين الاسمين الكريمين وهو في غاية المناسبة؛ لأن المقام يقتضي ذلك، المغفرة والرحمة، ولابد من ظهور مقتضيات هذه الأسماء في الخلق، وتظهر آثار الأسماء الحسنى إذا وُجد من يُغفر له، ومن يُرحم؛ ولهذا قضى الله بوجود المعاصي والذنوب من أجل أن تظهر آثار أسمائه الحسنى، فيعاقب هؤلاء، ويرحم هذا، ويغفر لهؤلاء، ويتوب على هؤلاء، فهو التواب الرحيم الغفور القوي العزيز، وهذه الآية آية الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [الزمر:53]، قال كثير من أهل العلم وهو المشهور: إنها أرجى آية في القرآن، ومعنى أرجى آية في القرآن يعني أكثر آية تُرجِّي أهل المعاصي والذنوب بسعة رحمة الله ، أرجى آية، آيات الرجاء كثيرة، فقيل: هذه، وبعضهم يقول: أرجى آية في كتاب الله تعالى هو قوله للذين نسبوا له الصاحبة والولد: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74] النصارى، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]، أَفَلاَ بأسلوب العرض الرقيق، وهم فعلوا هذه الجريمة النكراء العظيمة، ومع ذلك يتلطف بهم هذا التلطف، كذلك في قوله تعالى في قصة أصحاب الأخدود، أحرقوا المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10]، أحرقوهم بالنار، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، بل إن من أهل العلم من قال: أرجى آية في كتاب الله هي آية الديْن، فالله قال في آية الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ... [البقرة:282]، إلى آخر ما ذكر الله ، أطول آية في الاحتياط لمال المسلم؛ لئلا يضيع، ولربما كان دُريهمات قليلة، فقال بعض أهل العلم: إذا كان الله اعتنى بمال المسلم؛ لئلا يضيع هذه العناية العظيمة، ونزلت فيه أطول آية في القرآن فالله -تبارك وتعالى- أعظم وأشد عناية بالمسلم من ماله، حرمة المسلم أعظم، فقالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله.
ثم ذكر آيات: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17]، يقولون: هذه تدل على الرجاء، وهو ظاهر، وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ، طيب والمؤمن؟.
وكذلك: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طـه:48].
طيب المؤمن الذي يعصي ولم يكذِّب ولم يتولَّ حريٌّ برحمة الله.
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وسعت كل شيء، لكن لا نغتر بهذه النصوص فقط، فهناك نصوص أخرى فيها وعيد، هذه الآية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، يمكن أن يقال: أكْمِل الآية: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156].
وكيف يكون الإنسان متقياً إلا بفعل ما أمره الله وترك ما نهاه عنه.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأحوالنا، وأن يرحمنا ووالدينا وإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.