إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة، إذا لبَّى الملبِّي، وكبَّر، وطاف بالبيت، وقال بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وأتمَّ سبعة أشواطٍ، ثم بعد ذلك يفعل ما شُرِعَ له من صلاة ركعتين، إلى غير هذا مما هو معلومٌ، ويتوجّه بعد ذلك كلِّه إلى الصَّفا.
فإذا توجَّه إلى الصَّفا يفعل ما فعله النبيُّ ﷺ، فإنَّه لما دنا من الصَّفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ثم قال: أبدأ بما بدأ اللهُ به، ثم بدأ بالصَّفا، فصعد الصَّفا ﷺ حتى رأى البيت، فاستقبل القبلةَ، فوحَّد الله وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزابَ وحده[1]، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات. الحديث، وفيه: "ففعل على المروة كما فعل على الصَّفا"[2]، إذا أتى الصَّفا قرأ هذه الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، والصَّفا معروفٌ، يُقال للصَّخر الأملس، فهو جمع: صفاةٍ، والجمع به الجبل المعروف، والمروة أيضًا هي كذلك أصلها يُقال للحجر الصَّغير، والمقصود بها الجبل الصَّغير الذي يُقابل الصَّفا، وكلنا يعرف ذلك.
فهذان الجبلانِ هما المرادانِ بقوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ يعني: من معالم الدِّين الظَّاهرة، والله -تبارك وتعالى- جعلها من المواضع التي يُذْكَر فيها ، جعلها معلمًا ومَشْعرًا يعبدونه عندها، ويقفون عليها، ويذكرونه ويُوحِّدونه، ويدعون الله -تبارك وتعالى-، هذا يكون عند المرور بالصَّفا والمروة، أو عند بلوغ الصَّفا والمروة في كل مرةٍ في السَّعي.
وأصل ذلك -كما هو معروفٌ- أنَّ هاجرَ زوج إبراهيم وقع لها ما وقع مع ابنها، فلمَّا اشتدَّ به العطشُ كانت تتردد بـيـن الصَّفا والمروة تبحث عن مُغيثٍ، وتبحث عن شيءٍ تُطفئ به حرارةَ العطش التي حلَّت بصغيرها، فنفعل ذلك لأنَّ الله أمرنا به تعبُّدًا له، واقتداءً بهؤلاء الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، فإنَّ الحجَّ هو من شعار الدِّين، وهو من ملَّة إبراهيم ، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أمره أن يُؤذِّن في الناس بالحجِّ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].
فهذه أشياء نقتدي بهم فيها؛ لأنَّ الله أمرنا بذلك، فنحن مُتعبَّدون به: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، فهي ليست من شعائر الجاهلية، وليست من مُبتكرات أو مُخترعات البشر، وإنما هي شيءٌ يدين الناسُ به لربِّ العالمين؛ لأنَّه شرعه، وأمرهم بالوقوف والذكر والدُّعاء عنده، والسَّعي بين الصَّفا والمروة، فمَن حجَّ البيتَ قصده للنُّسك، أو اعتمر، أي: زاره لحجِّه الأصغر الذي هو العُمرة التي أصلها بمعنى الزيارة: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا، "لا جناح" يعني: لا إثم، ولا حرج. لا حرجَ ولا إثمَ عليه أن يَطَّوَّف: أن يسعى بين الصَّفا والمروة.
وهل يكون على مَن سعى بين الصَّفا والمروة من حرجٍ، وهي من شعائر الله؟
الجواب: أنَّ الله قدَّم بين يدي ذلك قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ليُعلم أنها ليست من شعائر الجاهلية، إذن الحرج منفيٌّ عمَّن سعى بين الصَّفا والمروة؛ لأنَّ أقوامًا كانوا يتحرَّجون من ذلك بعد أن دخلوا في الإسلام؛ لظنِّهم أنَّ هذا من شعائر الجاهلية؛ لأنهم كانوا يفعلونه في جاهليتهم، ولربما لأنَّ أقوامًا أيضًا وقع لهم التَّحرج، كما تدلّ عليه بعضُ الرِّوايات الصَّحيحة؛ لكونهم كانوا ممن يُهِلُّون لمناة، وأنَّ مَن أهلَّ لمناة الطَّاغية -الصنم المعروف في الجاهلية- أنَّه لا يأتي الصَّفا والمروة، فبعضُهم يقولون: من أهلَّ لمناة جاء لزومًا إلى الصَّفا والمروة. وبعضهم يقولون: إنَّ مَن أهلَّ لمناة فلا يحلّ له أن يأتي الصَّفا والمروة. فوقع التَّحرج من قِبَل هؤلاء؛ يظنون أنَّ ذلك من أعمال الجاهلية، فكيف يُلابسونه؟ كيف يتعاطون عملاً من أعمال الجاهلية؟!
وهذا يدل على أنَّ المؤمن يحترز ويتوقَّى ويخاف أن يفعل أشياء لربما كان الحاملُ عليها محض العادة والإلف، ولكن ذلك قد لا يكون مشروعًا، وإنما يأتي المؤمنُ بالأعمال لأنَّ الله شرعها، وهذا يحتاج إلى علمٍ؛ ليكون عملُه بذلك صالحًا مُتَّبعًا فيه شرع الله -تبارك وتعالى.
فهنا تحرَّج مَن تحرَّج، فنفى اللهُ عنهم الحرجَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، أنتم تفعلون ذلك إيمانًا بي، واتِّباعًا لرسولي بسعيكم بين الصَّفا والمروة: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، "مَن تطوع خيرًا" فسّره ابنُ جريرٍ -رحمه الله- يعني: مَن تطوع بالحجِّ أو العُمرة بعد الفريضة؛ وذلك مندوبٌ، حثَّ الشارعُ عليه[3]: تابعوا بين الحجِّ والعُمرة، فإنَّهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد[4]، فهذا الحثُّ من قِبَل الشَّارع يدعو المكلَّفين إلى التَّزود بعد الفريضة، والتَّردد على بيت الله الحرام حُجَّاجًا وعُمَّارًا.
فمَن تطوَّع خيرًا بحجِّه أو عُمرته: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، فذكر هنا الشَّاكر، والله من أسمائه: الشَّاكر، وهو الذي يجزي على الحسنات إحسانًا، ويُضاعف في العطاء والجزاء، كل هذا من معنى الشَّاكر، وسيأتي الكلامُ عليه -إن شاء الله- في الأسماء الحسنى.
وأيضًا من أهل العلم مَن يقول بأنَّ معنى: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ أنَّه مَن فعل من الحسنات والخيرات والأعمال الصَّالحات: من حجٍّ، وعُمرةٍ، وطوافٍ، وصلاةٍ، وصومٍ، إلى غير ذلك مما يُتطوع به، فيفعل الطَّاعات مُخلصًا بها لله -تبارك وتعالى-: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ يُجازيه، فلا يُضيِّع شيئًا من أجره وثوابه، عليمٌ به، وعليمٌ بمقصده ونيَّته، وعليمٌ بعمله، فعليه أن يُصحح النية، وعليه أن يحتسب الأجرَ عند الله -تبارك وتعالى.
وهذا المعنى ذكره الشيخُ عبدالرحمن بن سعدي، فذكر معنًى أعمَّ مما قاله ابنُ جرير، فذكر الحجَّ والعُمرة والأعمال الصَّالحة، يتطوع بالطَّواف، وبأعمالٍ خيرةٍ، وصدقات، ونفقات، وصلوات، إلى غير ذلك[5].
إذا استقرَّ هذا عند المؤمن: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ فإنَّه لا يستثقل سعيه وعمله وممشاه، والتَّعب الذي يلقاه، ولا يستثقل النَّفقة التي يدفعها، فيشعر ويجد في نفسه أنها من قبيل المغرم إن لم يكن يحتسب عند الله، فيقول: أنا دفعتُ في هذه الحجّة كذا، وذهبنا خمسة أشخاص أو ستة أشخاص أو سبعة أشخاص من أسرةٍ واحدةٍ، ودفعنا كذا وكذا. كأنها مقطوعة من قلبه، لا، لا يكون التَّعاملُ مع الله بهذه الطَّريقة أبدًا، هذه تجارةٌ مع الله، فهذه الأموال مخلوفة، وهي أفضل ما يُنفق به المال، ولن تجد نفقةً أفضل من هذه، خاصَّة إذا كانت الفريضة: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضتُ عليه[6].
فهذه التي ندفعها في الأضاحي أو في الهدي، لا يبحث الإنسانُ عن الهدي الأرخص، كأنَّه شيء يُثقل كاهله، ويُرهقه، يُريد التَّخلص منه، فلا يكون التعاملُ مع الله بهذه الطريقة.
وهذا الإنسان الذي يتعب -أيُّها الأحبة- وهو يجد أنَّ هذا التَّعبَ مخلوفٌ، وأنَّه مُعوَّضٌ، وأنَّ الله يراه، وأنَّ الله يعلم بعمله ونفقته من قرشٍ وهللةٍ وريالٍ ومئةٍ وألفٍ، فالله يعلمها، إذن هو يُنفقها وهو مُستريحٌ وبانشراحٍ.
فابذل وأنفق، فهذه أفضل الأيام، وفي الحجِّ، ولن تجد نفقةً أفضل من هذا، فهذه أحسن النَّفقات، فيفرح المسلم ويغتبط.
وهكذا يُقال في الهدي والأضاحي، والنبي ﷺ قرَّب مئةً من البدن، كانت تكفيه شاةٌ واحدةٌ، ونحر ثلاثًا وستين بيده ﷺ، ونحن نبحث عن الأرخص من الضَّأن أو المعز! هذا ما يليق، وكان يبعث هديَه وهو في المدينة قبل أن يحجّ، ونحن نبحث عن الأضحية الأرخص! إن كانت في مؤسسةٍ ابحث عن الأرخص، أين التي بمئتين وخمسين؟
المعاملة مع الله ما تكون بهذه الطريقة، الله شاكرٌ عليمٌ، فسيُعطيك، لو قيل للناس: هناك مُساهمة خلال أربعة أشهرٍ، والأرباح فيها تصل إلى عشرة بالمئة، عشرين بالمئة، ثلاثين، أربعين، مئة بالمئة، هنا إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فالحسنة بعشر أمثالها، ويُضاعف لمن يشاء، فهذه التجارة الحقيقية مع الله.
ولو قيل للناس: مُساهمة عقارية تصل إلى الضِّعف؛ لتكسرت أبوابُ المكتب الذي يفتح هذه المساهمة، ولسُدّت الطرق، واحتاج المرورُ أن يأتوا ليُنظموا حركةَ الناس، ولكانت أزمة في الناحية كلّها، والسَّعيد الحظيظ مَن يعرف طريقًا أو هاتفًا خاصًّا لهذا الذي طرح هذه المساهمة يتَّصل عليه، ولو قيل: الضعف فقط.
وهنا عشرة أضعاف إلى سبعمئة ضعف، والله شاكرٌ عليمٌ غنيٌّ، وليس هناك أي مُخاطرة، ولا واحد من المليون، رابحة، فلماذا نتعامل -أيها الأحبة- بهذه الطَّريقة مع الله -تبارك وتعالى؟!
يصعد الصَّفا، وينظر إلى الكعبة، ويستقبلها، ويُوحِّد الله، ويُكبّره، ويقول: "لا إله إلا الله"، يبدأ بكلمة التَّوحيد: لا إله إلا الله، لا معبود بحقٍّ إلا الله، ولا تخضع النَّواصي إلا له، ولا تُصرف العبادة لأحدٍ سواه؛ لأنَّه هو المنعم، المتفضّل، الخالق، الرازق، النافع، الضَّار، المعطي، المانع، ونواصي الخلق بيده، والملك كلّه، وهو مُستحقٌّ أن يُعبد وحده دون ما سواه، ولا يُصرف شيءٌ من ذلك لأحدٍ سوى الله .
"لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له"، وبهذا لا يمكن أن يتوجّه لمخلوقٍ: لقبرٍ، أو الأولياء يتوسَّل بهم، ويستغيث بهم، ويذبح لهم، ويتقرَّب إليهم، ويطوف بقبورهم، ويدعوهم: يا فلان، أغثني، مدد. هذا ما يمكن أن يصدر من هذا الموحّد: "لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير"، وتكلمنا على هذه المعاني: الملك كلّه له، والملوك جميعًا خاضعون لملكه، وعزَّته، وقوّته، وقهره، وجبروته، وله الحمد كلّه؛ لأنَّه المستحقّ لجميع المحامد؛ لكونه الكامل من كل وجهٍ، لا يمكن أن يُضاف جميع الحمد إلا لمن كان كاملاً من كل وجهٍ، وله الحمد.
"وهو على كلِّ شيءٍ قدير" هو أقوى وأقدر من كل قادرٍ، ومن كل قويٍّ، لا يستعصي عليه شيءٌ، والمخلوق يحسب ألف حسابٍ قبل أن يخدمك، أو يُعينك، أو يقضي لك حاجةً، له حسابات، مهما كان شأنه، ومهما علا قدره ومنزلته، وفي النِّهاية قد يعتذر ويقول: لا أستطيع؛ لأنَّ هذا فيه تبعة، مهما علا شأنه، والله -تبارك وتعالى- على كل شيءٍ قدير، ماذا تريد؟ تُعاني من مرضٍ؟ تُريد الولدَ؟ تُريد المالَ؟ تُريد ما في الآخرة؟ تُريد الهداية؟ تُريد زوجةً؟ ماذا تريد؟ وهو على كل شيءٍ قديرٌ.
الأمة تريد النَّصر على الأعداء، والعزَّ والتَّمكين، فهو على كل شيءٍ قدير، هذا التَّوحيد الذي يكون في الحجِّ هو الطَّريق الذي تسلكه وتتوجّه به القلوبُ أولاً، ثم بعد ذلك يكون العملُ الواقعي في الخارج، الذي يصدق ما لهجت به الألسن، وما توجّهت إليه القلوب.
ولاحظ هذا التَّذكير: "لا إله إلا الله، أنجز وعدَه، ونصر عبده، وهزم الأحزابَ وحده" يُذكِّرهم، وكل حاجٍّ يُرددها، ويتذكرون هذا المعنى الكبير: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وهنا في يوم الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:9-11]، في هذا المقام حصل الدَّفع من الله -تبارك وتعالى-، أنجز وعده: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51]؛ ولهذا قال المؤمنون في يوم الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22].
بعض السلف فسّر: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ يعني: النَّصر. وبعضهم يقول: الابتلاء الذي وعد اللهُ به: لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186].
وأحسن ما قيل -والله أعلم- ما ذكره ابنُ كثيرٍ من الجمع بين المعنيين: من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النَّصر القريب[7]؛ لما رأوا الابتلاءَ يلوح تذكَّروا: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186]، فـقَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] مباشرةً: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
فالمؤمن إذا رأى الابتلاءَ تذكَّر هذا المعنى: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فلا ينكسر، ولا يذلّ، ولا يُخزى، ولا يتراجع، ولا يشكّ في وعد الله -تبارك وتعالى- بهذا المقام الذي حصل فيه النَّصر والتَّمكين والظُّهور، والحجّ الذي لا يُخالطهم فيه أحدٌ من المشركين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، أتمَّ عليهم النِّعمة، فحجّوا مُنفردين، لا يُخالطهم مُشركٌ في تلك السَّنة لأول مرةٍ، وقد كان المسلمون يحجّون مع المشركين، فلمَّا حجَّ النبيُّ ﷺ في السنة العاشرة نُودِي في السنة التاسعة: أن لا يحجَّ بعد العام مُشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ. فحجَّ المسلمون وحدهم.
هنا: "أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزابَ وحده" تذكيرٌ بهذه النعم، وإقرارٌ بها، اذكروا نعمةَ الله عليكم، وهذا من ذكر هذه النِّعمة على الصَّفا والمروة، يُردد ذلك ويقوله كلما صعد من غير ذكر الآية، أعني قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، فهو يُردد هذا، ثم يدعو، ثم يقول هذه الأشياء مرةً، مرةً، ثم يدعو، ثم يقول الثالثة، ثم ينطلق بعدها إلى الصَّفا، أو إلى المروة.
هذا ما يتعلّق بما اتَّسع له الوقتُ في هذه الليلة.
أسأل الله أن يتقبَّل منا ومنكم، وأن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
- أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجّة النبي ﷺ، برقم (1218).
- أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجّة النبي ﷺ، برقم (1218).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (3/ 248).
- أخرجه الترمذي: أبواب الحجِّ، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، برقم (810)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".
- "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص77).
- أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).
- "تفسير ابن كثير" ت. سلامة (6/ 392).