الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الثاني في باب الرجاء، وهو:
قول النبي ﷺ هنا: يقول الله ، هذا ما يعرف عند العلماء بالحديث القدسي، وهو ما يضيفه النبي ﷺ إلى ربه -تبارك وتعالى، يقول: قال الله تعالى، يقول الله ، نحن نقول: يقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه، ونحو ذلك، هذا هو الحديث القدسي، والأقرب أن ألفاظه ومعناه من الله ، لكنه لا يتعبد بتلاوته، ولم يتعهد الله بحفظه كما هو في القرآن.
يقول: يقول الله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، (من) هذه تفيد العموم، وهذا مقيد بالقيود المذكورة في النصوص الأخرى، وذلك أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما تحقق فيه شروط ثلاثة -شروط قبول العمل، وذلك ما ذكره الله في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الكهف:2]
الشرط الأول: الإيمان: فاليهودي إذا عمل وهو مخلص لله وتصدق بصدقة يريد بها وجه الله لا تقبل منه، وهكذا النصارى، فلابد من الإيمان.
والشرط الثاني: هو أن يكون مخلصاً بهذا العمل، لا يرائي، ولا يريد السمعة.
والشرط الثالث: الموافقة والمتابعة للنبي ﷺ.
فهنا من جاء بالحسنة.. يعني: التي تحققت فيها هذه الشروط، وإلا فإنها لا تعتبر حسنة.
فله عشر أمثالها أو أزْيَد، له عشر أمثالها كما قال الله في آخر سورة الأنعام: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، يقول: فله عشر أمثالها، وهذا المقصود به الحد الأدنى في الجزاء، وإلا فقد جاءت النصوص تبيّن أن الله يعطي أكثر من ذلك، إلى سبعمائة ضعف[2]، إلى أضعاف كثيرة.
وقوله: ومن جاء بالسيئة فجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها أو أغفِرُ...، الحسنة بعشر إلى ما شاء الله، والسيئة بواحدة، فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:84]، وهذا من لطف الله ورحمته بعباده، ومن كمال عدله أنه يجزي بالسيئة السيئة، لكنه يتفضل بالحسنة، ولذلك العلماء يقولون: ويل لمن غلبت آحاده عشراته، الآحاد هي السيئات، سيئة بواحدة، والعشرات هي الحسنات، فإذا غلبت الآحاد العشرات فمعنى ذلك أن هذا الإنسان مفلس، ما عنده شيء، ما عنده عمل، عنده سيئات، الواحدة بواحدة، ومع ذلك رجحت كفة السيئات، وليس عنده حسنات تذكر، فتضاعف له.
وقوله: أو أغفِرُ بمعنى أن الله قد يتجاوز عنه ابتداءً، وقد لا يعذب بهذه السيئة، بسبب مصائب مكفرة، وقد لا يعذب بسبب شفاعة.
وقوله: ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً...، الشبر معروف، ما بين طرف الخنصر إلى طرف الإبهام، هذا هو الشبر، والذراع يقدر بشبرين، وهو من المرفق إلى أطراف الأصابع.
ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، والباع هكذا من أطراف أصابع اليد إلى أطراف أصابع اليد الأخرى مع الصدر، إذا قلنا: إن اليد تقدر بما يقرب من ذراعين، والصدر بذراع، فهذه خمسة أذرع، المجموع.
فالشاهد أنه قال: ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، الهرولة: نوع من المشي فيه إسراع، لكنه دون الخَبَب، مشي يعني أسرع من المشي المعتاد، لا يصل إلى حد الجري، وإنما يكون فيه إسراع يقال: فلان يهرول، لكن ما وصل إلى حد الجري، ولا يلزم فيه تقارب الخطى، أما الذي يكون فيه تقارب الخطى فهذا هو الرَّمَل.
وقوله: بقراب الأرض، يعني: بما يقارب امتلاءها، يعني يقرب من ملئ الأرض، فهذا شيء كثير، يقول: لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة، وهذا من أحاديث الرجاء، ولم يذكر فيه التوبة، ولم يميز فيه بين الصغائر والكبائر، والمشهور عند أهل العلم أن الكبائر لابد لها من توبة، والأحاديث والنصوص الواردة في هذا كقوله ﷺ مثلاً: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر[3].
لكن الله قد يغفر الكبائر لطفاً ورحمة منه ، ولو من غير توبة، لكن الإنسان يخاف، والنبي ﷺ إحدى الشفاعات التي أعطاه الله إياها هي شفاعته لأهل الكبائر من أمته، فالإنسان يبادر إلى التوبة، ونصوص الوعيد واضحة، أولئك الذين يعذبون من أصحاب الكبائر، الذي رآه النبي ﷺ يُشق شِدقه من هنا، والآخر الذي يضرب بحجر في فِيه، الذي يأكل الربا، الذي يسبح بنهر من دم[4]، وغير ذلك ممن رآهم النبي ﷺ يعذبون هم أصحاب الكبائر، وأخبر النبي ﷺ عن الذي يأخذ القرآن ويرفضه، أو ينام عن الصلاة المكتوبة أنه يُثلَغ رأسه بالحجر، فيعذبون، فالعبد ينبغي أن يحاسب نفسه، وأن يراجع ربه، ويصلح عمله، ولا يتكل على نصوص الرجاء.
وقوله ﷺ فيما يرويه عن ربه -تبارك تعالى- هنا: ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة إلى آخره، هذا فيه معنى أن الله يُقبل على العبد، وأن الله يُسارع في ثوابه وفي قبوله، وفيه إثبات لهذه الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته بلا كيف، نثبت ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ.
فصفة الهرولة ثابتة لله بهذا الحديث، لكن ذلك لا يشبه صفة المخلوقين، هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة.
والمقصود: أن الإنسان إذا استشعر مثل هذا المعنى فإن ذلك يبعثه على مزيد من الإقبال على ربه، والعمل الصالح والتوبة والإنابة، إذا استشعر العبد أنه بمجرد عمل يسير، بإقبال يسير أن الله يُقبل عليه أكثر من ذلك، وإن تاب فإن الله يفرح بتوبته أعظم من فرح ذلك الإنسان الذي أضل راحلته، ثم بعد ذلك استسلم للموت، فنام تحت ظل شجرة، ثم بعد ذلك استيقظ وإذا بهذه الراحلة عند رأسه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد من هذا الإنسان الذي ظن أنه يموت، وتيقن واستسلم للموت[5].
فنحتاج إلى مزيد من الإقبال على الله ، نثق أننا إذا صلينا لله -تبارك وتعالى- ركعتين في أي وقت من الليل أو النهار أن الله يُقبل علينا أكثر من هذا، وإذا تصدقنا بصدقة ولو يسيرة أن الله يَقبل منا، وأن الله يُقبل علينا أعظم من إقبالنا عليه، فيكون العبد متسارعاً في الإقبال على ربه ومليكه الذي هو غني عنه ، ونحن الفقراء المساكين.
وقد يقول قائل: إن من تقرب شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، والذراع ضعف الشبر، والباع بالنسبة للذراع يمكن أن يقال: هو واحد إلى خمسة، فلم يكن ذلك عشرة، الحسنة بعشر أمثالها، فيقال: هناك في بيان العدد ما يقابل الحسنة بعشر، والمقصود به هنا الإيضاح والبيان لإقبال الله على عبده، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، رقم: (2687).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151)، عن أبي هريرة .
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (1/ 209)، رقم: (233).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1386)، عن سمرة بن جندب .
- أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم (2747)، عن أنس بن مالك .