الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الرجاء أورد المصنف -رحمه الله-:
"كنت أصلي لقومي بني سالم"، يعني بني سالم بن عوف من الخزرج.
"أصلي" بمعنى أنه يصلي فيهم إماماً، "وكان يحول بيني وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار، فيشق عليّ اجتيازه قِبل مسجدهم"، يعني يشق عليّ المرور فيه، وهذا الوادي في ناحية مسجدهم في جهته، فطريقه على هذا الوادي، يقول: "فجئت رسول الله ﷺ فقلت له: إني أنكرت بصري"، هذه العبارة تحتمل أن بصره قد تغير وصار فيه ضعف شديد، بحيث يتخوف على نفسه من المشي في هذا الطريق الذي فيه هذا الوادي لضعف بصره، وجاء في بعض الروايات ما يدل على أن بصره قد ذهب، جاء في بعضها أنه قد عمي.
وقوله: "قد أنكرت بصري"، يحتمل هذا أنه قد كف بصره، قد عمي، فما عاد يستطيع الذهاب في ذلك الحين إذا جاء المطر، وامتلأ الوادي، لا يستطيع الذهاب إلى ذلك المسجد.
قال: "فجئت رسول الله ﷺ فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشق عليّ اجتيازه، فوددت أنك تأتي وتصلي في بيتي مكاناً أتخذه مصلى، فقال رسول الله ﷺ: سأفعل.
هنا يريد في هذه الأوقات التي لا يستطيع الوصول فيها إلى المسجد لهذا العذر أن يصلي في بيته، وأراد أن يتخذ مكاناً يكون الذي يصلي له فيه أولاً هو رسول الله ﷺ، بمعنى كأن النبي ﷺ يضفي على هذا العمل مشروعية، ويكون ذلك بإقراره ﷺ، وفعْله العملي له، بحيث لا يريد أن يصلي في بيته ويترك الجماعة في المسجد هكذا من عند نفسه، وإنما جاء إلى النبي ﷺ يعرض عليه عذره ويريد للمكان الذي يصلي فيه أن النبي ﷺ هو الذي كما نقول الآن: يبتدئه أو يفتتحه، أو يكون أول من يصلي فيه، وليس المقصود بذلك التبرك، وهذا ليس من التبرك المشروع، خلافاً لما ظنه بعضهم، والأماكن التي صلى فيها النبي ﷺ لا تُقصد للصلاة فيها، ولا يتبرك بها، إنما الذي يتبرك به هو ما ذكر الله عنه أو وصفه بالبركة، فذلك يتبرك فيه، مثل: التين والزيتون، شجرة مباركة، فهي في ثمرتها هذه وفي زيتها مباركة، فهذا يتبرك فيه، ويمكن للإنسان أن يشتري الزيت أو يستعمل الزيت، أو يدهن به، أو يأكله طلباً للبركة، يأكل الزيتون طلباً للبركة، فهو مبارك، فهذه من الأعيان المباركة بنص الشارع، وهكذا الذوات المباركة، مثل: ذات النبي ﷺ، فرسول الله ﷺ يتبرك بدعائه، فيطلب منه الدعاء في حياته ﷺ، كما أنه يتبرك بأجزائه المنفصلة عنه، مثل: الشعر، فالنبي ﷺ حينما حلق شعره وزعه على أصحابه، فيتبرك فيه، والنبي ﷺ لما فرغ من وضوئه أعطى فضل وضوئه فقُسم بين الناس، حتى كاد الناس أن يقتتلوا عليه.
ولم يكن ذلك دائماً، لكن في يوم الحديبية كأن النبي ﷺ أراد أو أقرهم أو تركهم من أجل أن يرى المشركون محبتهم لرسول الله ﷺ، وكان رؤساء المشركين قد جاء بعضهم ليفاوضوا النبي ﷺ حتى إن أحدهم كان يكلمه ويأخذ بلحيته هكذا، فكان أصحاب النبي ﷺ كالأسود حوله، فكان المغيرة بن شعبة ينخسه بالسيف ويقول له: دع لحية رسول الله ﷺ، وتعرفون ما وقع من أبي بكر في مثل هذا الموقف، وكان ﷺ في ذلك اليوم ما بصق ولا تنخم أوتمخط إلا وقعت في كف واحد منهم، تبركًا به ﷺ، ولم يكن ذلك عادة لهم، وإنما في ذلك المقام ليرى المشركون، كذلك عرق النبي ﷺ كان يُخلط بالطيب، فيكون أحسن الطيب، فمثل هذه الأجزاء المنفصلة من رسول الله ﷺ، وكذلك ثيابه التي لامست جسده، والنبي ﷺ أعطى عبد الله بن عبد الله بن أُبيٍّ أعطاه قميصه ليكفن به أباه، وهو رئيس المنافقين، لما طلب منه ذلك، وذلك مكافأة له؛ لأن عبد الله بن أُبيٍّ المنافق والد عبد الله الصحابي كان قد أعطى العباس قميصاً أو ثوباً، فكافأه النبي ﷺ بهذا، فالشاهد أن الصحابة منهم من يطلب من النبي ﷺ شيئاً فيعطيه ثوبه أو بردة عليه أو نحو ذلك فيلام على هذا، فكان يعتذر هذا الصحابي أنه أرد أن يكفن بها، كذلك كان النبي ﷺ يسوي الصفوف، فلما دفع رجلاً في بطنه قال له: يا رسول الله، قد أوجعتني، قال له: فاقتص، قال: يا رسول الله، كنتُ حاسراً، فحسر النبي ﷺ عن بطنه، فجعل الرجل يضمه ويقبله، فقال النبي ﷺ: ما حملك على ما صنعت؟، قال: أردت أن يكون ذلك آخر ما يمس جسدي من الدنيا[2]، فهذا تبركٌ بذاته الشريفة ﷺ.
أما اليوم فلا يوجد شيء من هذا إطلاقاً، لا يوجد شيء من لباسه ولا من عرقه، ولا من ثيابه، ولا شيء من أجزائه الطاهرة ﷺ، وأما الذهاب إلى الأماكن التي يقال: إنه صلى فيها ﷺ اتفاقاً لا قصداً فإن مثل هذه لا تتبع، وعمر كان في طريقه إلى مكة، ورأى الناس يبتدرون شجرة يصلون تحتها، فسأل عنها، فقالوا: إنها الشجرة التي بايع النبي ﷺ تحتها أصحابه -الحديبية- في بيعة الرضوان، فأمر عمر بقطعها، وأخبر أنه إنما هلك من قبلنا بتتبعهم لآثار أنبيائهم، فمثل هذه الآثار لا تتبع، وعتبان لم يقصد بذلك التبرك في المكان، وإنما كأنه أراد أن يكون هذا الشيء يشرعه له النبي ﷺ ويقره عليه، فالشاهد أن النبي ﷺ كان متواضعاً مع أصحابه، يأتيه الرجل ويقول: أنا أريد أن أصلي في بيتي وأريد أن تصلي لي في المكان هذا، يأتي ويصلي، تأتيه المرأة وتطلب منه مثل هذا، فيأتي ويصلي لها، ويُطرح له بساط قد ذَبُل وتغير واسودّ من طول ما لُبس، أو من طول ما استُعمل.
قال: سأفعل، فغدا رسول الله ﷺ وأبو بكر بعدما اشتد النهار، أي: علا وارتفعت الشمس، من اليوم الثاني مباشرة، وهذا يدل على تواضعه ﷺ، وسرعة إجابته لأصحابه.
يقول: "واستأذن رسول الله ﷺ"، يعني جاء إلى بيته فاستأذن في الدخول، يقول: "فأذنت له، فلم يجلس حتى قال"، يعني ما جلس، قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟، القصد الذي جاء من أجله، بخلاف لما جاء إلى أم أنس، فإنه جاء وأكل ثم بعد ذلك صلى لهم؛ لأنه ما دُعي ليصلي لهم.
فالشاهد هنا قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟، يقول: "فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله ﷺ فكبّر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم، وسلمنا حين سلم".
وهذا يدل على أن الإنسان يجوز له أن يتخذ مكاناً معيناً في البيت يصلي فيه؛ لأن هذا يجد قلبه فيه مثلاً في هذا المكان، أو لأنه مثلاً هو المكان الذي يصلح للصلاة في البيت أو نحو ذلك، فيصلي في مكان معيّن، يقول: "فكبّر وصففنا وراءه فصلى ركعتين"، هذا يدل على أنه يجوز أن تصلى النافلة سواء كانت في الليل أو في النهار، يجوز أن تصلى جماعة، لكن بشرط أن لا يكون ذلك عادة، لا يتخذ عادة، والشرط الثاني: أن لا يكون ذلك باتفاق، يعني كما يقول الشاطبي -رحمه الله- في الاعتصام: "لا يتفقون للاجتماع من أجل أن يصلوا النافلة جماعة إلا في قيام رمضان فقط"، لكن لو أن الناس كانوا في سفر مثلاً، وقام واحد يصلي من الليل، فجاء الآخرون وائتموا به فصلى لهم، لا إشكال في هذا، لو أنهم كانوا في استراحة أو نحو ذلك فقام رجل يصلي من الليل فقاموا يصلون خلفه لا إشكال، لو أن رجلاً جاء وزار آخر وجلس يصلي من الضحى مثلاً، جاء الآخر ائتم به فلا إشكال، وهي نافلة، لكن لا يتخذ عادة.
والشرط الثاني: لا يكون ذلك باتفاق، يعني لا يتفقون عليه.
الشاهد يقول: "ثم سلم، وسلمنا حين سلم، فحبستُه على خَزيرة تُصنع له، فسمع أهل الدار"، الخزيرة: طعام يصنع من الدقيق الذي لم يُنقَّ، ولهذا يقول بعضهم: النخالة، يُغلى الماء ثم يوضع فيه هذا الدقيق، وهو يشبه العصيدة، حبسه على خزيرة، ولم يحبسه على مائدة مليئة بالأطعمة أو لحوم، ومعنى حبسه أنها ما نضجت؛ لأنه قال: تصنع له، قال له: انتظر هناك طعام سيأتي، يقول: فحبسته على خزيرة، طعام بهذه المثابة، وهذا من تواضعه ﷺ، "تصنع له، فسمع أهل الدار"، أهل الدار يعني أهل الناحية، أهل المحلة التي هم فيها، وليس المقصود أهل البيت، "أن رسول الله ﷺ في بيتي فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت"، شرف ما بعده شرف، النبي ﷺ في بيته، وتصور بيوت السابقين كم مساحتها؟ الغرفة يمكن أن تكون مترين في مترين، بيوت صغيرة جدًّا، فيقول: "فثاب رجال"، ثابوا أي: أنهم جاءوا إلى بيته، وأصل ذلك يقال لمن تفرقوا ثم رجعوا، فثابوا: أي: اجتمعوا إليه ورجعوا إليه، إلى البيت، "فقال رجل.. إلى آخره".
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، برقم (425)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، برقم (657).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (2676).