الإثنين 16 / جمادى الأولى / 1446 - 18 / نوفمبر 2024
بعض ما ورد عن السلف في باب الرجاء
تاريخ النشر: ٢٣ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 1469
مرات الإستماع: 4088

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد ذكرنا طائفة من أقوال السلف، ومن أحوالهم في خوفهم من الله -تبارك وتعالى، وهذا باب ما جاء عنهم من الرجاء، "لما حضرتْ عمرو بن العاص الوفاة قال: اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك، فكانت تلك هجّيراه حتى مات"[1].

وجاء أيضاً أنه: "لما احتضر معاوية قيل له: ألا توصي؟، فقال: اللهم أقل العثرة، واعفُ عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجُ غيرك"[2].

وجاء أيضاً: "عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي نعوده، فذهب بعضهم يرجِّيه، فقال: أنا أرجو ربي، وقد صمت له ثمانين رمضانًا"[3]، فكانوا يرجُّونه عند الموت، وكما ذكرنا: أن هذا الذي عليه عامة السلف، من تغليب جانب الرجاء على جانب الخوف في حال الاحتضار، وذلك لقول النبي ﷺ: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه[4].

وقوله هنا: "وقد صمت له ثمانين رمضانًا"، هذا ليس من باب الرياء بالعمل، فإن صوم رمضان واجب، وفرض على كل أحد، وهو شيء لا يخفى، ومعلوم أن من عاش هذه المدة أنه صام هذا الشهر في كل تلك السنوات.

وأيضا: "قال معاذ بن معاذ: ما رأيت رجلاً أعظم رجاء لأهل الإسلام من ابن عون، لقد ذُكر عنده الحجاج وأنا شاهد، فقيل: يزعمون أنك تستغفر له؟ فقال: مالي أستغفر للحجاج من بين الناس، وما بيني وبينه؟، وما كنت أبالي أن أستغفر له الساعة"[5]، يعني يقول: إن رحمة الله أوسع من أن نضيقها عن الحجاج.

وأيضاً: "قال حماد بن سلمة: والله لو خُيرت بين محاسبة الله لي، وبين محاسبة أبوي؛ لاخترت محاسبة الله، وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي"[6]، وهذا واضح، وذلك كما ذكرنا في بعض المناسبات من أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام:151]، وقال:وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء:31]، فهو: يوصي الآباء بالأبناء، وينهاهم عن قتلهم، مع أن قلوب الآباء قد جبلت على الشفقة على الأبناء، وهكذا قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ  [النساء:11]، وما شابه ذلك.

وجاء: "عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- قال: وعزته لو أدخلني النار ما أَيِسْتُ"[7]، يقول: لا أيأس من رحمته.

وأيضاً: "يقول المزني: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ فرفع رأسه، وقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى، وأنشأ يقول -ولاحظوا: أن الخوف لم يفارق قلبه في هذه الحال: 

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلتُ رجائي دون عفوك سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنتُه بعفوك ربي كان عفوُك أعظما
فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منّةً وتكرما
فإن تنتقم مني فلستُ بآيسٍ ولو دخلتْ نفسي بجرمي جهنما

إلى آخر ما قال"[8].

وجاء: "عن ابن أبي الحواري قال: كنت أسمع وكيعًا يبتدئ قبل أن يحدِّث، فيقول: ما هنالك إلا عفوه، ولا نعيش إلا في ستره، ولو كُشف الغطاء لكُشف عن أمر عظيم"[9]، يعني: لو هتك عنا ستره لافتضحنا، كما كان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: إنما نعيش في كنف ستر الله ، ولو كشفه لافتضحنا.

وأيضًا: "قال شعيب بن حرب لرجل: إن دخلت القبر ومعك الإسلام فأبشر"[10].

هذه نماذج من حالهم مع الرجاء، هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يلحقنا وإياكم بسلفنا الصالح ، وأن يحشرنا جميعًا تحت لواء نبيه محمد ﷺ، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه أحمد، رقم: (17781)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  2. سير أعلام النبلاء (3/ 160).
  3. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: (4/ 192)، وتاريخ بغداد ت بشار: (11/ 88)، رقم: (5001).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، رقم: (2877).
  5. سير أعلام النبلاء (6/ 367).
  6. المصدر السابق (7/ 449).
  7. المصدر السابق (8/ 432).
  8. تاريخ دمشق لابن عساكر: (51/ 431).
  9. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: (10/ 12)، وسير أعلام النبلاء (12/ 92).
  10. سير أعلام النبلاء (12/ 92).

مواد ذات صلة