إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة، في هذه الليلة سأتحدَّث -إن شاء الله- عن الآية الثانية والثالثة مما أورده المؤلفُ في فضل الذكر.
تحدَّثنا في الليلة الماضية عن قوله -تبارك وتعالى-: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
وفي هذه الليلة نتحدَّث عن قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وعن قوله -تبارك وتعالى-: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].
فالله -جلَّ جلاله- في الآية الأولى لما أمر بذكره قيَّد ذلك بالكثرة، كما جاء ذلك في مواضع، كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:41- 43].
وفي الآية الأخرى ابتدأها الله بقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، فذكر هذه الأوصاف التي تنتظم مراتب أهل الإيمان، ثم عقَّب ذلك بقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، ثم ذكر جزاءهم: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
سيأتي الحديثُ -إن شاء الله تعالى- عن قضايا تتعلَّق بهذه الآية، وعن قضايا تتعلق بالآية التي قبلها، لكن ابتدئ هذا الحديث هذه الليلة بالكلام على الضَّابط والحدّ الذي يكون به العبدُ ذاكرًا لله كثيرًا، متى يكون العبدُ من الذاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات؟
الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وأثنى على أهل الإيمان، وذكر مراتبهم، ووعدهم بالأجر والمغفرة، وذكر منهم: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، فكيف يتحقق المؤمنُ من هذا الوصف؟ وكيف يكون مُطبِّقًا له؟ وكيف يكون مُتَّصفًا بهذه الصِّفة؟ ومتى يكون العبدُ ذاكرًا لربه كثيرًا؟ وما المقدار؟ وما المعيار؟ وما الحدّ الذي يصير به العبدُ كذلك؟
جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، قال ابنُ عباسٍ: "يريد في أدبار الصَّلوات، وغدوًّا وعشيًّا، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله"[1].
ذكر الله تعالى بمعنى: أنَّه يُحافظ على الأذكار المشروعة: أدبار الصَّلوات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وأذكار الاستيقاظ، وأذكار الخروج، وما إلى ذلك.
فهذه الأذكار التي تُقال في أوقات وأحوال ومناسبات، فإذا حافظ على هذه الأذكار والأوراد المشروعة كان من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات. هكذا قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-.
وجاء عن مجاهدٍ -رحمه الله-: "لا يكون العبدُ من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومُضطجعًا"[2]؛ لأنَّ الله قال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وسيأتي الإلمامُ بشيءٍ مما يتَّصل بهذه الآية، وإن كان المؤلفُ -حفظه الله- لم يتطرَّق لها، ولم يذكرها.
فعلى كل حالٍ، هكذا قال مجاهد -رحمه الله-؛ وذلك أيضًا يرجع إلى ما قاله ابنُ عباسٍ، بمعنى: أنَّه يذكر الله آناء الليل وأطراف النَّهار، ويذكر الله في الأحوال المختلفة.
وجاء أيضًا في حديث أبي سعيدٍ الخدري : أنَّ النبي ﷺ قال: إذا أيقظ الرجلُ أهلَه من الليل فصلّيا أو صلَّى ركعتين جميعًا كُتِبَا في الذَّاكرين والذَّاكرات[3]، وهذا فضلٌ من الله ، كما جاء بأنَّ صلاةَ الضُّحى تعدل تلك الصَّدقات التي على كل مِفصلٍ.
وسُئل ابنُ الصلاح عن القَدْر الذي يصير به العبدُ من الذَّاكرين الله كثيرًا، فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحًا ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهارًا؛ كان من الذَّاكرين كثيرًا"[4]، وهذا يرجع إلى قول ابن عباسٍ -رضي الله عنهما.
وجاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا أنَّه قال: "إنَّ الله لم يفرض على عباده فريضةً إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلَها في حال عذرٍ، غير الذِّكْر؛ فإنَّ الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على تركه، فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، بالليل والنَّهار، وفي البرِّ والبحر، وفي السَّفر والحضر، والغنى والفقر، والسّقم والصحّة، والسِّر والعلانية، وعلى كل حالٍ، قال تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:42]، فإذا فعلتُم ذلك صلَّى عليكم هو وملائكته"[5]، هكذا قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-.
والنبي ﷺ كان يذكر الله على كل أحيانه، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها-، وقد أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه".
الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "وأقلّ ذلك أن يُلازم العبدُ الأذكارَ المأثورة عن معلم الخير وإمام المتَّقين ﷺ: كالأذكار المؤقّتة في أول النَّهار وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصَّلوات، والأذكار المقيّدة مثل: ما يُقال عند الأكل والشُّرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل والمسجد والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد، إلى غير ذلك"، إلى أن يقول: "ثم مُلازمة الذكر مُطلقًا، وأفضله: لا إله إلا الله"، إلى آخر ما قال من أنَّ بعضَ الذكر قد يكون في بعض الأحوال مطلوبًا: كسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فقط يكون ذلك في بعض المواضع مُقدَّمًا على غيره[6].
هكذا قال شيخُ الإسلام، وهذا يرجع إلى قول ابن عباسٍ، وإلى ما قاله ابنُ الصلاح، وقول مجاهد ليس بخارجٍ عن ذلك.
والشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- أيضًا يُقرر هذا المعنى ويقول: "وأقلّ ذلك أن يُلازم الإنسانُ أورادَ الصباح والمساء، وأدبار الصَّلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب"[7]، وحينما ينزل منزلاً، ونحو هذا.
هذا ما يتعلَّق بالضَّابط والمعيار الذي يكون العبدُ به ذاكرًا لله -تبارك وتعالى- كثيرًا.
بعد هذا أنتقل إلى مسألةٍ أخرى: وهي ما يتعلَّق بهذه الآيات في هذه الصِّفة التي ذكرها اللهُ -تبارك وتعالى-: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، إذن هم الذين يذكرونه -تبارك وتعالى- في جميع الأحوال، ولاحظ الأوصاف التي ذكرها الله في سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلى آخره، مع ما سيأتي، ومع ما مضى في الكلام على فضل الذكر في المقدّمات، أو فوائد الذكر، أو منافع الذكر من أنَّ الذكر أفضل الأعمال، فإنَّ ذلك حينما ينضاف إلى أعمالٍ شريفةٍ ينضاف إلى الصيام والصَّدقة، ويكون العبدُ فيه من أهل الإسلام والإيمان والقنوت، والمراد بالقنوت دوام الطَّاعة والمداومة عليها.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- له رسالةٌ في قنوت الأشياء لله -تبارك وتعالى-، جمع استعمالات القنوت في القرآن والمواضع التي ورد فيها، وخرج بنتيجةٍ وهي: أنَّ القنوتَ يدور على هذا المعنى: دوام الطَّاعة: اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران:43]، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [الأحزاب:35]، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ [الأحزاب:31]، وهكذا.
فهؤلاء يذكرون الله في كل الحالات؛ فهذا الخاشعُ والقانتُ والمتصدِّقُ والصَّائمُ والمجاهدُ حينما أخبر النبيُّ ﷺ أنَّ الذكرَ أفضلُ من جميع الأعمال، حتى الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، كل هذا حينما ينضاف إلى هؤلاء العاملين: الذكر بالقلب واللِّسان؛ فإنَّ ذلك يجعل عملهم أفضل الأعمال، فإذا وجد مَن يصوم، أو مَن هو مُتصدِّقٌ، أو خاشعٌ، أو قانتٌ، أو نحو ذلك، مع كثرة الذكر؛ فإنَّه بلا شكٍّ أفضل من ذاك الذي يذكر ربَّه -تبارك وتعالى- بلسانه، مع مُواطأة القلب، من غير تلك المزاولات والأعمال.
فهؤلاء في إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم وصدقتهم وصومهم، كلّ ذلك أول ما يبتدئ بالنية، وهي لونٌ من الذكر، ومُراقبة الله ، وابتغاء ما عنده، وما عند الله دون التفاتٍ إلى أحدٍ سواه، فهذا منشأ الذكر وأصله، وعليه المعول في الأعمال كلِّها، فحينما ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الأوصاف، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا في سورة الأحزاب [الأحزاب:21]، وهكذا في الآية الأخرى التي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، كلّ ذلك في سورة الأحزاب؛ لأنَّ الإكثارَ من الأعمال البدنية قد لا يتأتَّى للمُكلَّفين، يعني: قد لا يستطيع أن يُصلي طول الوقت، ولا يستطيع أن يُجاهد طول الوقت، ولا يستطيع أن يتصدَّق في سائر الأوقات.
إذن ما الذي يمكن أن يفعله المكلَّفُ في أوقاته كلِّها، فيُلازمه ملازمةً لا تشقّ عليه؟
هو ذكر اللِّسان الذي يكون مع مُواطأة القلب.
فالإنسان في حال أكله وشُربه وتحصيل منافعه ومصالحه وقوّته ورزقه وما إلى ذلك، لا يستطيع أن يكون في حالٍ من الصَّلاة ونحو هذا، لكنَّه يستطيع أن يكون ذاكرًا وهو يُزاول أعماله، وأن يكون مُراقبًا لله في هذه الأعمال، فهذا من الذكر؛ فهو يبيع ويشتري ويمشي ويكون في حالٍ من الذكر بلسانه وقلبه.
فهذه الأوامر التي أمر الله -تبارك وتعالى- فيها بالإكثار من الذكر: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] تعمّ جميع الأحوال؛ لأنَّ العبدَ إمَّا أن يكون قائمًا، أو قاعدًا، أو مُضطجعًا، فالله -تبارك وتعالى- أراد من العباد أن يذكروه في الأحوال والأوضاع كلِّها، كما أنَّ الله -تبارك وتعالى- أخبر أنَّ مَن ألهاه ماله وولده عن ذكر الله فهو خاسرٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]، فالمنافقون إنما أوقعهم في النِّفاق طلبُ إحراز الأموال والأولاد، فالله -تبارك وتعالى- ينهى أهلَ الإيمان عن مثل فعلهم؛ لئلا يُضيِّعوا أنفسَهم بسبب ذلك.
ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- أمر بذكره في أعظم المواطن: حال الالتحام، ومُلاقاة الأعداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، فالفلاح هو تحصيل المطلوب، والنَّجاة من المرهوب، بالظَّفر والنَّصر على الأعداء والغلبة، وكذلك أيضًا بالأجر والثَّواب.
حينما يُجاهد الإنسانُ في سبيل الله، وكذلك حينما يُقتل في سبيله؛ فإنَّه يصير إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى-، والأجور غير المنقطعة.
وكذلك أيضًا حينما جعل الذكرَ سببًا لصلاته على عبده، كما في الآية الأخرى من سورة الأحزاب حينما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، قال: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:42-43]، فذكر الله سببٌ لصلاة الله -تبارك وتعالى- على عبده، وهو سببٌ لهدايته؛ لأنَّ هذه الهداية تكون سببًا للتَّوفيق والتَّسديد والهدايات المتتابعة المتعاقبة.
وهكذا حينما قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وإذا ترك العبدُ ذكرَ الله -تبارك وتعالى- يكون قد نسيه، فإذا نسي ربَّه -تبارك وتعالى- لم يُوفَّق؛ ولهذا قال الله : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، فهنا لا يلهم العبد شيئًا من مصالحه فيضيع، ويكون اشتغاله بما يضرّه، هذا الذي نسي ذكره والثَّناء عليه، وتحميده وتمجيده؛ فنسيه اللهُ -تبارك وتعالى- من رحمته، وأنساه مصالح نفسه فلم يعرفها، ولم يطلبها، بل تركها وأهملها، فصارت مُعطَّلةً.
ومن هنا -أيُّها الأحبة- أيضًا إذا كان العبدُ مُتحقِّقًا بهذا -يعني من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات- صار ذلك على كلِّ جوارحه، فكل جارحةٍ لها عبودية من العبوديات، وهذه العبوديات قد تكون مُؤقتةً في بعض الجوارح، لكن عبودية الذكر المتعلّقة باللِّسان تكون دائمةً ومُستمرةً، لا تنقطع، وهكذا أيضًا عبودية القلب فهي مُستمرة.
ومن هنا فالعبد مأمورٌ بذكر معبوده ومحبوبه في كل حالٍ: قائمًا، وقاعدًا، وعلى جنبه، والجنة قيعان، غِراسها الذكر، وهكذا القلوب؛ فهي بُورٌ، القلوب بُورٌ وخرابٌ، وعِمارتها وأساسها هو ذكر الله -تبارك وتعالى-، وقد ذكرنا في المقدّمات أنَّ ذلك يُصقلها، ويحصل من ألوان الصَّلاح والإصلاح لهذه القلوب بذكر الله ما لا يُقادر قدره، وكلما ازداد العبدُ ذكرًا لربِّه -تبارك وتعالى- ازدادت محبَّةُ الله له؛ فيكون من المقرَّبين إلى الله، وبقدر ما يترك من ذكر ربِّه يكون إعراضُ الله -تبارك وتعالى- عنه.
والحديث في هذه القضية -أيُّها الأحبة- يتشعب ويطول، فهذا الذكر على كل حالٍ هو للقلب -كما سبق- حياته، وهو بالنسبة للسان الغافل كالبصر للعين، واللِّسان الغافل كالعين العمياء -نسأل الله العافية- يعني: شغل هذا اللِّسان ما هو؟ وما عمله؟ وما عبوديته؟ فإذا عُطِّل منها فكأنَّ ذلك بمنزلة تلك العين التي تعطَّلت منها منفعةُ البصر، فلسان الغافل كالعين العمياء، وكاليد الشَّلاء، لا ينتفع بها، وكالأذن الصَّمَّاء.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإيَّاكم من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات -والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- "التفسير الوسيط" للواحدي (3/ 471).
- "تفسير عبدالرزاق" (3/ 39) (2344).
- أخرجه أبو داود: أبواب قيام الليل، باب قيام الليل، برقم (1309)، وصححه الألباني.
- البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" لابن عجيبة (4/ 431).
- "تفسير ابن كثير" ت. سلامة (6/ 433).
- "الزهد والورع والعبادة" (ص92-93).
- "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص667).