الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل البكاء من خشية الله ما جاء في حديث أنس قال: قال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما- بعد وفاة رسول الله ﷺ: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله ﷺ يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله ﷺ؟ فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلمُ أن ما عند الله خير لرسوله ﷺ ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها[1]. رواه مسلم.
وهذا الحديث مضى في باب زيارة أهل الخير، وفيه من الفوائد الشيء الكثير، من ذلك: تواضع أبي بكر، وعمر -رضي الله عنهما-، ومع أن أبا بكر آلت إليه الخلافة بعد رسول الله ﷺ وكان عمر وزيره، وساعده الأيمن، ومع ذلك كانا يزوران هذه المرأة.
وهذا فيه أيضًا كما ثبت عن النبي ﷺ أن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي، فإذا كان ذلك من بر الوالدين، فهكذا أيضًا من حسن العهد، والوفاء لرسول الله ﷺ أن يزار من كان يزوره ﷺ.
وفيه -أيضًا-: أنه لا بأس بزيارة الرجال للمرأة، إذا أُمنت الفتنة، المرأة الكبيرة التي لا يتطرق إلى الأذهان شيء من الريبة بزيارتها، امرأة كبيرة لا تطمح النفوس إليها، ولا يقع في ذلك ريبة، بخلاف شواب النساء.
والنبي ﷺ حذر أمته، حذر الرجال: إياكم والدخول على النساء، فقيل: أرأيتَ الحمو؟ قال: الحمو الموت[2].
يعني: هذا هو الخطر الشديد الذي يشبه بالموت، والموت ليس بعده شيء، وذلك أن الحمو إذا دخل فإن ذلك لا يتفطن إليه أحد؛ لأنه قريب، ولا يستنكر دخوله، فيقع بسبب ذلك من المفاسد ما الله به عليم.
وإذا كان هذا القريب يكون بهذه المنزلة، فكيف بدخول البعيد على النساء؟!.
فهذا أمر شديد الخطورة، بل حتى إلقاء السلام على شواب النساء لا ينبغي أن يكون من الرجل الشاب، إذا مر بها لا يلقي عليها السلام، كل ذلك سدًّا للذريعة، بخلاف المرأة الكبيرة بالسن، فإذا سلم عليها أو زارها فلا بأس، لكن من غير خلوة، ولا مصافحة.
فأبو بكر وعمر أتيا هذه المرأة، ولا يصح لأحد في قلبه مرض أن يحتج بمثل هذا الحديث على جواز الاختلاط، أو التزاور بين الرجال والنساء، ونحو ذلك، إطلاقًا.
قال: كما كان رسول الله ﷺ يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، تذكرت النبي ﷺ وتذكرت هذا المعنى الذي حضرها عندئذ.
فقالا لها: ما يبكيك؟، أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله ﷺ ؟.
هم ظنوا أنها تبكي على مفارقة رسول الله ﷺ.
قالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله ﷺ ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء.
تحزن على انقطاع الوحي، فلا شك أن مجيء الوحي إلى النبي ﷺ فيه خير كثير من العلم والرحمات، والتأييد والتثبيت، وأمور لا تخفى.
فبكت على ذلك، فهيجتهما على البكاء، استثارت البكاء في نفوسهما، فجعلا يبكيان معها.
ثم ذكر الحديث الآخر: وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما اشتد برسول الله ﷺ وجعه، يعني: في مرض الموت، قيل له في الصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس...[3].
وهذه إشارة منه ﷺ إلى خلافة أبي بكر فإن النبي ﷺ اختاره ليكون مقدمًا في دينهم، في عبادتهم، في صلاتهم التي هي أجل وأشرف الأعمال، وهي الركن الأول من أركان الإسلام بعد الشهادتين، فقدمه ﷺ فكونه ﷺ يرتضيه لدنياهم -يعني للخلافة- من باب أولى.
ولهذا قال ﷺ : يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر[4].
فالشاهد هنا قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن أبا بكر رجل رقيق. يعني: رقيق القلب، وفي رواية أخرى: رجل أسيف. يعني: لا يتمالك نفسه، يبكي إذا قرأ القرآن، قالت: إذا قرأ القرآن غلبه البكاء.
فقال: مروه فليصلِّ، وفي رواية عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمع الناسَ من البكاء.[5] متفق عليه.
وهذا يدل على شدة خشوعهم، وتأثرهم بالقرآن، بخلاف حالنا، نسأل الله أن يعفو عنا، وأن يرحمنا، وأن يغفر لنا تقصيرنا، وما يعتري هذه القلوب من القسوة، والله المستعان.
فالنبي ﷺ قدمه مع أنها اعتذرت عنه بهذا الاعتذار، وكانت تريد بذلك ألا يتقدم في هذا المقام، فينقبض الناس؛ لأنه قام مقام رسول الله ﷺ ولا شك أنهم يكرهون ذلك، هم ينتظرون النبي ﷺ فيكون هذا آخر العهد بالنبي ﷺ .
وهكذا كل من يأتي بعد عظيم، فلا شك أن النفوس قد تنقبض منه، مع أن أبا بكر في تلك المنزلة المعروفة عند أهل الإيمان ووُزن بالأمة فرجحها، ومع ذلك إذا قام مقام رسول الله ﷺ فإنه لن يؤدي شيئًا بالنسبة لمنزلة رسول الله ﷺ ومقامه.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في يزيد بن معاوية، وتعرفون أن يزيدًا لفظته الكثير من النفوس، وانقبض منه كثير ووقعت أمور، وقُتل الحسين وصارت أشياء.
شيخ الإسلام يقول: إن يزيد بن معاوية ملك كغيره من الملوك، يعني: ليس بأسوأ من بقية ملوك بني أمية، ولكنه جاء بعد الخلفاء، فلما جاء بعد الخلفاء صار في حال لا يحسد عليها من الضآلة.
وهكذا حتى في التأليف، والكتابة، وغير ذلك، إذا جاء كبير من أهل العلم، وبدأ كتابًا، فجاء آخر يكمل هذا الكتاب، وليس بمنزلته، فإنه يزري بنفسه بهذا الفعل.
إذا جاء عالم كبير وحقق كتابًا، وجاء طالب علم يريد أن يكمل التحقيق، فهذا سيجعل نفسه عرضة لألسنة الناس، وقِيلهم ووقيعتهم في عرضه، وما أشبه هذا، وهذا شيء معروف إلى يومنا هذا.
فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أم أيمن -رضي الله عنها- (4/ 1907)، رقم: (2454).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة (7/ 37)، رقم: (5232)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها (4/ 1711)، رقم: (2172).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة (1/ 137)، رقم: (682)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر (1/ 313)، رقم: (418).
- أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3/ 542)، رقم: (6016).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة (1/ 136)، رقم: (678).