الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن أخبار السلف في بكائهم من خشية الله : ما جاء عن علي بن عبد الله، قال: كنا عند يحيى بن سعيد، فلما خرج من المسجد خرجنا معه، فلما صار بباب داره وقف، ووقفنا معه، فقال: ادخلوا، فدخلنا، فقال لرجل: اقرأ، فلما أخذ في القراءة نظرت إلى يحيى يتغير حتى بلغ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان: 40].
فصعق يحيى، وغُشي عليه، وارتفع صوته، وكان بابٌ قريبٌ منه فانقلب، فأصاب الباب فَقار ظهره وسال الدم، فصرخ النساء، وخرجنا فوقفنا بالباب، حتى أفاق بعد كذا وكذا، ثم دخلنا عليه، فإذا هو نائم على فراشه، وهو يقول: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان: 40]، فما زالت فيه تلك القرحة حتى مات -رحمه الله[1].
وكما ذكرنا أن مثل هذه الأشياء قد تقع من بعض الناس، ويُغلب على هذا، وأن الكمال هو ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.
ولكن كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى، - يعني الصعق-[2].
يقول: وقال: أحمد بن سعيد الهمذاني: دخل ابن وهب الحمام، فسمع قارئًا يقرأ: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر: 47]، فغشي عليه[3].
ونحن حينما نورد مثل هذه الأشياء، أو يوردها الذهبي -رحمه الله- في الترجمة ليس المقصود من ذلك أن يقال للناس: إن هذا هو العمل المشروع، لكن العاقل يتعظ ويعتبر، أن هؤلاء بلغ بهم الخوف أن الواحد منهم يُغلب على نفسه، ويفقد وعيه، مع أن الكمال هو في هدي النبي ﷺ .
لكن هؤلاء ضعفت قلوبهم عن الجمع بين الخشوع، مع احتمال ما يَسمع وتدبر ما يَسمع فيغيب عقله، فيُغشى عليه، ومن الناس من يشغب على هذه الأشياء، ولا ينتفع بما يسمع، وينصرف ذهنه إلى أن هذا على خلاف عمل السلف، وأن هذا أمر مذموم، بينما الإمام أحمد يقول: لو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى. نحن لا نتكلم عن الصوفية، أو نتكلم عن الذين يمثلون ويتظاهرون، كما قال بعض السلف: بيننا وبينهم أن يقعد الواحد منهم على جدار، ثم يُقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، هل يقع أو لا يقع؟.
لا نتكلم عن هذا، ولذلك نترك كثيرًا من الآثار التي قد يوجد فيها شيء من المخالفة، أو المبالغة، والعاقل والموفق هو الذي يعرف كيف ينتفع بما يسمع.
ويقول حذيفة بن قتادة: إن لم تخشَ أن يعذبك الله على أفضل عملك فأنت هالك[4].
هذا الكلام محمله على ماذا؟، كما قال : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، فهو يخاف أن هذا العمل يدخله شيء من الرياء، أو يعقبه شيء من العجب، والزهو، فإن الإنسان بعد الطاعة قد يقع له شيء يكون في حالٍ الذي لم يفعل هذه الطاعة أفضل منه.
ويقول: وقال تميم بن عبد الله: سمعت سويد بن سعيد يقول: كنت عند سفيان، فجاء الشافعي فسلم وجلس، فروى ابن عيينة حديثًا رقيقًا، يعني: حديثًا في الرقاق، تحدث عن الجنة، أو النار، أو نحو هذا.
يقول: فغشي على الشافعي، فقيل: يا أبا محمد، مات محمد بن إدريس.
فقال ابن عيينة: إذا كان مات، فقد مات أفضل أهل زمانه[5].
ويقول أبو سليمان الداراني: لكل شيء عَلَم -يعني: علامة يعرف بها-، وعَلَم الخذلان ترك البكاء، ولكل شيء صدأ، وصدأ القلب الشبع[6] وصدق.
ويقول أيضًا: أبو غسان مالك بن إسماعيل بن أدهم هو أتقن من إسحاق بن منصور، يقول: كان له فضل وصلاح، وعبادة وصحة وحديث واستقامة، وكانت عليه سجدتان، كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج من قبر -رحمه الله-[7].
يقول المروذي: بال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مرض الموت دمًا عبيطًا، فأريته الطبيب، فقال: هذا رجل قد فتت الغم -أو الخوف- جوفه[8].
ويقول المروذي: سمعت أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: الخوف منعني أكل الطعام والشراب، فما اشتهيته، وما أبالي أن يراني أحد، ولا أراه، وإني لأشتهي أن أرى عبد الوهاب.
يقول: قل لعبد الوهاب: أخمِلْ ذكرك، فإني قد بُليت بالشهرة[9].
ويقول أيضًا: رأيت أحمد بن عيسى المصري، ومعه قوم من المحدثين دخلوا على أبي عبد الله أحمد بن حنبل بالعسكر، فقال له أحمد: يا أبا عبد الله، ما هذا الغم؟، الإسلام حنيفية سمحة، وبيت واسع!، فنظر إليهم، وكان مضطجعًا، فلما خرجوا قال: ما أريد أن يدخل عليّ هؤلاء[10].
ويقول أحمد بن عاصم: قلة الخوف من قلة الحزن في القلب، كما أن البيت إذا لم يُسكن خرب[11].
وجاء عن جابر بن زيد: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، قال: الموت من ذلك.
وقيل: إن أبا حمزة تكلم يومًا على كرسيه ببغداد، وكان يذكِّر الناس، فتغير عليه حاله، وتواجد فسقط عن كرسيه، ومرض، قال: ثم مات بعد أيام[12].
يقول ابن الأعرابي الإمام اللغوي المعروف: وقال ابنٌ لناصح: أقام ابن سيد حَمْدُويه خمسين سنة، ما استند، ولا مد رجله، هيبة لله تعالى[13].
النبي ﷺ كان يمد رجله، لكن المقصود أن مثل هؤلاء بلغوا من حالهم في الخوف مرتبةً الإنسان إذا قرأ عنها، أو سمعها راجع نفسه وقال: ما بالنا نحن؟!، هذا هو المقصود.
لماذا أولئك يخافون، ونحن لا نخاف؟ ولماذا عندهم هذه الرقة ونحن عندنا هذه القسوة؟ ولماذا يتأثرون عند سماع القرآن، ونحن لا نتأثر؟.
وكل شيء له علاج، من عالج نفسه، وقلبه بالمعالجات الصحيحة، ووجدت الشروط، وانتفت الموانع صح له قلبه، وصار له من القدرة على التفكر، -ونيل المطالب من التبصر-، وصار له من الرقة ما لا يقادر قدره.
أسأل الله أن يلطف بنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: سير أعلام النبلاء (9/184).
- انظر: المصدر السابق (9/180).
- انظر: المصدر السابق (9/227).
- انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/268).
- انظر: المصدر السابق (9/95).
- انظر: سير أعلام النبلاء (10/183).
- انظر: المصدر السابق (10/431)
- انظر: المصدر السابق (11/227).
- انظر: المصدر السابق (11/305).
- انظر: المصدر السابق (11/324- 325).
- انظر: المصدر السابق (11/410).
- انظر: المصدر السابق (13/168).
- انظر: المصدر السابق (14/112).