الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الزهد أورد المصنف -رحمه الله-:
عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين ، وجويرية كما هو معلوم هي بنت ملك بني المصطلق سُبيت مع من سبي، ثم كانت للنبي ﷺ وتزوجها، وأبوها هو الحارث بن أبي ضرار، وأخوها عمرو لم تكن له رواية كثيرة عن رسول الله ﷺ، كان مقلاً، وكانت وفاته في حدود سنة خمسين من الهجرة.
وعلى كل حال بنو المصطلق يرجعون إلى خزاعة، غزاهم النبي ﷺ، ومحالهم وأرضهم قريبة من قُديد بالمُشلَّل على الساحل الغربي.
يقول: "ما ترك رسول الله ﷺ عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمةً، ولا شيئاً إلا بغلتَه البيضاء التي كان يركبها، وسلاحَه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقةً"[1] رواه البخاري.
"ما ترك رسول الله ﷺ عند موته ديناراً، ولا درهماً" يعني: ما ترك نقوداً لا قليلة، ولا كثيرة، فنفي الدينار والدرهم، الدرهم شيء يسير من الفضة، فما ترك ديناراً ولا درهماً، ولم يترك ﷺ أيضاً شيئاً من الأعراض، عرض الدنيا مما يُتموّل غير الدينار والدرهم، ولا عبداً ولا أمةً.
وهذا يدل على أن الذين ذكروا من أنهم مماليك للنبي ﷺ أو من الإماء أنهم حينما توفي النبي ﷺ كان ﷺ قد أعتقهم، أو أنهم ماتوا قبل أن يعتقهم قبل موته ﷺ فلما مات لم يكن له عبد على الرق بحيث يباع أو يشترى.
قال: "ولا أمة ولا شيئاً"، وجاء من حديث عائشة -ا- في صحيح مسلم: "ما ترك ديناراً ولا درهمًا ولا شاة ولا بعيراً[2]، فما ترك شيئاً من الدواب ولا من المماليك ولا من الدراهم والدنانير، بمعنى أنه لم يترك شيئاً من عرض الدنيا.
قالت: إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقةً معنى ذلك أن ناقته العضباء وفرسه ﷺ وما إلى ذلك كل هذا إما أنه يكون قد جعله في سبيل الله، أو أنه مات قبل موت النبي ﷺ، أو أن النبي ﷺ وهبه أو نحو ذلك.
إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وهذه البغلة أهديت للنبي ﷺ وقد اختلف فيمن أهداها إليه ﷺ وهي التي يقال لها: دُلدُل، وكان من هديه ﷺ أن يسمي دوابه، وما عنده من الآلات، ونحو ذلك.
وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة، كان للنبي ﷺ من أرض فَدَك النصف وهي من الفيء الذي أفاء الله به على المسلمين، وهي أرض قريبة من خيبر، وكان له من خيبر ﷺ سهمه، وذلك أن الفيء يقسم على خمسة أقسام كما هو معروف، كما قال الله : فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر:7].
فالخمس هو الذي يكون لله وللرسول فهو سهم واحد، فهذا سهمه من خيبر ﷺ، وكذلك أيضاً كانت له ضيعة في أرض النضير في المدينة، وهذا كله كان ﷺ في حياته يأخذ نفقته ونفقة أهله لمدة سنة، ويجعل الباقي من هذا الفيء في الكراع والسلاح، وما إلى ذلك من مصالح المسلمين.
تقول: "وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة" وهذا يدل دلالة واضحة وصريحة على إعراض النبي عن الدنيا، وعلى زهده فيها، وأنه ﷺ كان متخففاً منها، وقد مات ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي، اقترض منه شعيراً، فهذه حال أفضل الخلق، وأشرف الخلق، ولربما إذا نظرنا إلى حال المقل منا من هذه الدنيا رأينا أن الواحد منا إذا أراد أن ينتقل من دار إلى دار فإنه يحتاج إلى شاحنات أو شاحنة يتكرر ذهابها ومجيئها هذا حال الأقل والأضعف، أما إذا أردنا أن ننقل ما في الدور الكبار القصور وما إلى ذلك فهذا يحتاج إلى ليالٍ وأسابيع من أجل أن تنقل هذه الأشياء.
فانظر إلى توسعنا في الدنيا، وانظر إلى حال النبي ﷺ، ما كان في بيته ﷺ ما يرد البصر.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العفاف والغنى والكفاف، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.