الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب الزهد ما جاء:
قوله ﷺ: قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين يعني: أنهم سبقوا إلى ذلك وأصحاب الجَدِّ يعني: أصحاب الحظ والغنى، محبوسون يعني في الحساب يحاسبون على أموالهم التي اكتسبوها من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها، ماذا عملوا بها، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار.
يعني: أن هؤلاء الذين بقوا وحبسوا عن الجنة هم من المسلمين، وأما أهل النار ففقيرهم وغنيهم قد أمر بهم إلى النار، لكن بقي الأغنياء من المسلمين بعد الفقراء في حساب ومساءلة عن هذه الأموال التي اكتسبوها.
وجاء أيضاً من حديث أبي هريرة وهو الحديث الأخير في هذا الباب:
أصدق كلمة قالها شاعر الكلمة تقال للكلام كما هو معروف، فقد يلقي الإنسان خطبة، ويقال: ألقى كلمة كما قال ابن مالك -رحمه الله:
............... | وكِلمة بها كلامٌ قد يُؤم. |
يقال: كِلْمة وكَلْمة وكَلِمة، فهنا أصدق كَلِمة يعني: أصدق ما قاله الشعراء هو ما قاله لَبيد بن ربيعة، وهذا مقيّد في قول الشعراء؛ لأن كلام الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أصدق من كلام الشعراء، ولكن في قول الشعراء وشعر الشعراء كلمة لبيد، ولبيد هو لبيد بن ربيعة العامري، ويرجع نسبه إلى هوازن، وهو من المعمرين قيل: عاش مائة واثنتين وأربعين سنة، وبعضهم يقول: مائة وسبعًا وخمسين سنة، توفي في أول خلافة معاوية ، قدم على النبي ﷺ وأسلم وحسن إسلامه، وترك الشعر وهو من فحول شعراء العرب، تركه بعد الإسلام.
النبي ﷺ يقول: لأَنْ يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً[3]، ويقال: إن عمر بن الخطاب قال للبيد مرة: أسمعنا من شعرك فقال: قد تركت الشعر بعدما أخذت سورة البقرة وآل عمران، فاستعاض عن هذا بهذا، وامتنع من أن يقول الشعر، وقال بعضهم: إنه قال بيتاً واحداً بعد إسلامه فقط، وهو الذي قال فيه: والمرءُ يُصلحه القرينُ الصالحُ.
وهذا فيه عبرة أيها الأحبة، وهو أن الإنسان مهما كانت مواهبة وميوله ينبغي أن يوجه ذلك إلى الأنفع والأحسن، وما يقربه إلى الله -تبارك وتعالى- فالحياة قصيرة، والأعمال بينها تفاضل كبير، فهذا لبيد بن ربيعة فحل من فحول الشعراء فترك الشعر معنى ذلك أنه ترك تلك الموهبة التي عرف بها، وتميز بها إذا ذُكر كما قال الشافعي -رحمه الله:
ولولا الشعرُ بالعلماء يزري | لكنتُ اليومَ أشعرَ من لَبيد[4] |
يضرب به المثل في فصاحته وشعره وجودته ومع ذلك تركه، فكيف بمن كانت موهبته أصلاً ليست في الشعر ويتعنى ويتكلف ذلك تكلفاً لاسيما اليوم مع شاعر المليون وتهافت الناس على مثل هذه التفاهات والأمور التي لا طائل تحتها، وإنما تورثهم ضرراً محققاً من نزعات عصبية وتحيي فيهم أموراً من أمور الجاهلية وتوجد بينهم العداوة والبغضاء وتشغلهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه لا شك أنها أمور مذمومة، فالعاقل يُقبل على ما ينفعه.
هذا لبيد بن ربيعة، من يأتي بمثل لبيد؟ وحينما أسلم ترك ذلك، وليس معنى ذلك أن الشعر حرام، حسان بن ثابت كان شاعر النبي ﷺ وقد دعا له النبي ﷺ وقال: اهجهم وروح القدس معك[5] لكن تشاغُل من يشتغل بهذا الشعر مما لا ينصر به الدين أصلاً، ولا ينتفع به فمثل هذا أمر غير محمود.
الشاهد: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل كل شيء كما قال الله وهذا موافق للقرآن كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقد فسره بعض أهل العلم بمعني: إلا ما أريد به وجهه -تبارك وتعالى، ألا كل شيء ما خلا الله باطل. يعني: أنه ذاهب مضمحل، فالباطل هو الشيء الذاهب، ولهذا قيل: البَطَل، لماذا قيل له البطل؟ قيل: لأنه أبطل دمه لشدة شجاعته، فكأنه أبطل دمه لاقتحامه في صف العدو، فهو لا يهاب ولا يخاف، فقيل له: بطل، لذلك، هكذا قال بعضهم.
فالشاهد هنا: كل شيء ما خلا اللهَ باطل، إذاً إذا عرفنا أن كل شيء ما خلا الله، يعني: ما عدا اللهَ: أسماءَه، صفاته، ما يقرب إليه، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الذي ذكرناه من قبل: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه[6]، وذكَرَ العالم والمتعلم، وما عدا ذلك مما يشتغل به المنشغلون ويضيعون به الأعمار إذا وضعوا في قبورهم عرفوا أنهم كانوا في أحلام عريضة، وأنهم كانوا يشتغلون في أمور كان الحري بهم والأولى أن يشتغلوا بغيرها، ولكن على كل حال الموفق من وفقه الله .
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، (7/ 30)، برقم: (5196)، ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء، (4/ 2096)، برقم: (2736).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، (5/ 42)، برقم: (3841)، ومسلم، كتاب الشعر، (4/ 1768)، برقم: (2256).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن، (8/ 36)، برقم: (6154).
- انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشا (1/ 320).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، (4/ 112)، برقم: (3213)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل حسان بن ثابت (4/ 1932)، برقم: (2485).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، (4/ 561)، برقم: (2322)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، (2/ 1377)، برقم: (4112)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 703)، برقم: (2797).