الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الزهد في الدنيا مما جاء من الآثار والأخبار عن السلف الصالح في هذا الباب:
ما جاء عن أبي جعفر الباقر -رحمه الله- قال: من دخل قلبَه ما في خالص دين الله شغله عما سواه من الدنيا، وما عسى أن تكون؟ هل هو إلا مركب ركبتَه، أو ثوب لبستَه، أو امرأة أصبتَها؟[1].
ويقول عمران القصير: سألت الحسن البصري، فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، قال: وهل رأيت فقيهاً بعينك؟، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه[2].
وكان -رحمه الله- يقول -أعني الحسن البصري: أهينوا الدنيا، فوالله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها[3].
ويقول سفيان: جاء ابنٌ لسليمان بن عبد الملك، فجلس إلى جنب طاوس، -يعني ابن كيسان- فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين، فلم يلتفت إليه، قال: أردت أن يعلم أن لله عباداً يزهدون فيما بين يديه[4].
ويقول إبراهيم بن يزيد التيمي: كم بينكم وبين القوم؟ يعني: بينكم وبين السلف ، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا، وأدبرت عنكم فاتبعتموها[5].
ويقول بلال بن سعد: والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا، ونحن نرغب فيها[6].
ومات بسر بن سعيد الفقيه وما ترك كفناً.
وجاء عن مالك بن دينار -رحمه الله- أنه قال: الناس يقولون عنّي زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها[7].
مالك بن دينار كان من الزاهدين، عالم، وزاهد، وعابد، وأخباره في هذا معروفة، يقول عن نفسه: إنه ليس بزاهد؛ لأن الزاهد في نظره هو الذي أقبلت عليه الدنيا، فرفضها مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله، أما الذي لم تقبل عليه الدنيا فيقول: أزهد في ماذا؟.
كما قال الإمام أحمد حينما قيل فيه: إنه لم يزهد في الدنيا والمال، بل زهد فينا، فقال: وأي شيء أنا؟، إنما الناس يريدون أن يزهدوا فيّ، يعني: هذا من شدة تواضعهم .
وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول:
ولا خيرَ في عيشِ امرئٍ لم يكنْ لهُ | من اللهِ في دار القرارِ نصيبُ |
فإنْ تُعجب الدنيا أناساً فإنها | متاعٌ قليل والزوالُ قريبُ [8] |
وجاء عن عمرو بن دينار -رحمه الله- أنه قال: ما رأيت أحداً أنص للحديث من الزهري، وما رأيت أحداً أهون عنده من الدراهم، كانت عنده بمنزلة البعر[9].
والزهري -رحمه الله- معلوم أنه جالس الخلفاء، وكان قريباً من بعضهم ومع ذلك هكذا كانت نظرته إلى الدنيا.
ويقول سفيان: قيل للزهري: لو أنك سكنت المدينة، ورحت إلى مسجد رسول الله ﷺ تعلّم الناس منك، قال: إنه ليس ينبغي أن أفعل حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، ثم قال سفيان: ومن كان مثل الزهري؟[10].
هذا يقوله سفيان، من كان مثل الزهري؟، فالزهري يقول: أنا لست بأهل أن أذهب إلى مسجد رسول الله ﷺ، وأنتقل من الشام، ويتلقى الناس عني العلم؛ لأني أحتاج قبل ذلك إلى الزهد في الدنيا، وهو من أزهد الناس والدراهم عنده بمنزلة البعر.
وكان أيوب السختياني يقول: ليتق الله رجلٌ، فإذا زهد فلا يجعل زهده عذاباً على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه[11].
يعني يقول: إن من الناس من يزهد في الدنيا ولكنه يمتحن الناس بذلك، نظراً لحرصه على إظهار هذا الزهد وإعلام الناس بأنه زاهد، ويتحدث: الدنيا ما تساوي عندي شيئًا، الدنيا ما تقوم ولا تقعد، الدراهم عندي بمنزلة كذا، ما أهمتني الدنيا، أنا لا أنظر إليها، فيقول: هذا يمتحن الناس بهذا الزهد، فيجعل زهده سرًّا.
وكان أيوب السختياني -رحمه الله- ممن يُخفي زهده، يقول حماد: دخلنا عليه فإذا هو على فراش أحمر فرفعتُه أو رفعه بعض أصحابنا فإذا خصفُه محشو من الليف، وهو إمام كبير.
وعن كرز الحارثي قال: لا يكون العبد قارئاً -يعني طالب علم- حتى يزهد في الدرهم[12].
والله المستعان.
ويقول أبو بشر: كان كرز الحارثي من أعبد الناس، وكان قد امتنع من الطعام حتى لم يوجد عليه من اللحم إلا بقدر ما يوجد على العصفور[13].
طبعاً هذا مرفوض، النبي ﷺ كان يأكل من الطيبات، ويحب الحلو البارد، والحلوى والعسل.
يقول: وكان يطوي أياماً كثيرة، وكان إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يميناً ولا شمالاً، وكان من المخبتين لله، وقد ولِهَ من ذلك، فربما كُلِّم فيجيب بعد مدة من شدة تعلق قلبه بالله واشتياقه إليه.
يقول الذهبي -رحمه الله- معلقاً: هكذا كان زهاد السلف وعبادهم، أصحاب خوف وخشوع وتعبد وقنوع، لا يدخلون في الدنيا وشهواتها، ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والمحو والاصطلام والاتحاد
هذه عبارات منحرفة تزيّا بها بعض من ينتسب إلى التدين والزهد والعبادة.
يقول: فنسأل الله التوفيق، ولزوم الاتباع، والله المستعان.
نسأل الله أن لا يمقتنا، وأن يهدي قلوبنا ويصلح أعمالنا، ويغفر لنا ما قدمنا، وما أخرنا وما أسررنا، وما أعلنا وما هو أعلم به منا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
وصلى الله على نبينا، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (4/ 405).
- مصنف ابن أبي شيبة (35188).
- المصدر السابق (35306).
- سير أعلام النبلاء (5/ 42).
- الزهد لنعيم بن حماد (551).
- شعب الإيمان (6885).
- سير أعلام النبلاء (5/ 134).
- المصدر السابق (5/ 138).
- تهذيب الأسماء واللغات (1/ 91)، وسير أعلام النبلاء (5/ 334).
- سير أعلام النبلاء (5/ 337).
- المصدر السابق (6/ 19).
- المصدر السابق (6/ 86).
- المصدر السابق.