الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد، وهو باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات، ثم صدّر الباب كعادته بجملة من الآيات، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:59-60].
قوله:فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ، أي: من بعد الأنبياء والرسل الكرام الذين ذكرهم الله في سورة مريم، ذكر إبراهيم وذكر موسى، وذكر إسماعيل، وذكر إدريس، ثم بعد ذلك أثنى عليهم، وعقب ذلك بقوله: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، أي: جاءت قرون وأجيال، والخلْف بالإسكان كثير من أهل العلم يقولون: هو الخلَف السيئ، وأنه بالفتح -الخلَف- يقال: للخلَف الصالح، فيفرقون بين الخلَف والخلْف بهذا الاعتبار، وبعض أهل العلم يقولون: هما بمعنى واحد، ولكن المشهور هو التفريق بما ذكرت.
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، يعني: الخلَف السيئ، فهؤلاء الخلْف -الخُلوف- ما هي صفتهم؟، كما قال النبي ﷺ: ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل[1].
فهذا الخلف السيئ أول أوصافهم أنهم أضاعوا الصلاة، وإضاعة الصلاة من أهل العلم من يقول: المقصود بها هنا هو الترك لها بالكلية، وهكذا حمل بعض السلف قوله -تبارك وتعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، قال: "الذين هم عن صلاتهم" وليس: في صلاتهم، فبعضهم قال: هم الذين يتركونها، وبعضهم يقول: هو الذي يؤخرها إلى آخر الوقت، وبعضهم يقول: هو الذي يضيع المواقيت، وبعضهم يقول: الذي يضيع الأركان والواجبات، والأقرب أن قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ يشمل ذلك جميعاً، فمن وقع له السهو بسبب انشغال قلبه عن الصلاة اشتغالاً بالدنيا وإعراضاً عن الطاعة فهو داخل في هذا بخلاف من طرأ عليه ذلك، فإن ذلك لا يسلم منه أحد، لكن من كان معرضاً عن صلاته لا يهتم بها فينشغل عنها، فيدخل فيها ويخرج وهو لا يدري ماذا صلى فإن مثل هذا قد يدخل في هذا الوعيد.
وهنا في هذا الذم: أَضَاعُوا الصَّلَاةَ بعض أهل العلم -وهو الذي اختاره ابن جرير- يقول: تركوها بالكلية، وهو منقول عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة فمن بعدهم.
ابن جرير يقول: في الآية قرينة تدل على أن المراد الترك بالكلية؛ لأن الله قال: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ، فالذي يصلي ويفوّت بعض الأوقات أو يؤخر أو نحو ذلك هو مؤمن فكيف قال الله: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ؟
فيدل على أنه ليس بمؤمن، فقال: هذا هو الذي يتركها بالكلية، وبعض أهل العلم قال: هم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت، أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- حمل الآية على جميع هذه المعاني، فقال: الذي يترك الصلاة لا يصلي أصلاً هو أضاعها، والذي يصلي بعد خروج الوقت، يوقّت الساعة إذا أراد أن يذهب إلى العمل استيقظ وصلى بعد طلوع الشمس فهذا يكون قد أضاع الصلاة، وهكذا ذلك الإنسان الذي يؤخرها حتى يكون آخر الوقت فهذا أيضاً مضيع لها، والذي يضيع أركانها وواجباتها فإنه كذلك.
يقول: أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، هذه أول صفة.
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وهي محبوبات النفس ومطلوباتها مما تتطلبه النفوس وتركن إليه مما حرمه الله عليها، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، انشغلوا عن طاعة الله ورأس ذلك الصلاة- فصاروا متبعين للشهوات، قال: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، و"غيًّا" بعض أهل العلم يفسره ويقول: هو وادٍ في جهنم، ورد في هذا بعض الآثار، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، "غيًّا" وادٍ في جهنم، والغي أصله في كلام العرب يأتي في مقابل الرشد، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256]، ويقال للشر والضلال، كل ذلك يقال له: غي، وهذه المعاني متلازمة، وذلك أن الضلال هو خلاف الرشد، من كان ضالا فإنه لا يكون راشداً، ومن كان ضالا وفارق طريق الرشد فإن ذلك يؤدي به إلى العذاب، ولهذا بعضهم يقول: إن هذا وادٍ في جهنم.
قال:إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا، إلا من تاب من هؤلاء، ومن تاب تاب الله عليه، كما قال الله : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:68-71].
فالتوبة تجبّ ما قبلها، فهنا يقول: إِلَّا مَن تَابَ، أناب ورجع من تقصيره بترك طاعة الله أو فعل معصيته، وَآمَنَ، وذلك فيمن تاب من الكفر يحتاج أن يؤمن بالله : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ [البقرة:256].
وَعَمِلَ صَالِحًا، لابد من الأعمال الصالحة، والإيمان مركب من ثلاثة أشياء: قول اللسان، واعتقاد القلب، والعمل بالجوارح، وبعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن التوبة الصحيحة هي التي يحصل معها رجوع عن الذنب وندم، وعزم على عدم الرجوع إليه، وأيضاً إقبال على الله -تبارك وتعالى- وتغيير للحال، إقبال بالعمل الصالح، فالله يقول: وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا، "لا يظلمون شيئًا" يعني: لا يُنقَص من أجورهم، ولا يَذهب شيء من أعمالهم وحسناتهم، بل يجدون ذلك وافياً كاملاً عند الله -تبارك وتعالى، وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، وكما قال الله -تبارك وتعالى: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طـه:112]، لا يخاف ظلماً بأن يذهب أجره، ولا هضمًا: أي: لا ينقص من ثوابه، والله تعالى أعلم.
بقية الآيات نتكلم عليها -إن شاء الله- فيما بعد.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، (1/ 69)، برقم: (50).