الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب: فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات، أورد المصنف -رحمه الله- في هذا الباب حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما شبع آل محمد ﷺ من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض"[1]، متفق عليه.
وفي رواية: "ما شبع آل محمد ﷺ منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض"[2].
قولها: "ما شبع آل محمد"، هم زوجاته وأهله -عليه الصلاة والسلام- وهو داخل في هذا الإطلاق حينما يقال: آل فلان فإنه يدخل فيهم، والله يقول: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] يعني فرعون، فالمقصود أن النبي ﷺ وأهله ما شبعوا من خبز الشعير يومين متتابعين إلى أن مات.
وفي الرواية الأخرى: "من طعام البر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض"، وهذا يدل على أنه ﷺ في غاية التقلل من الدنيا، إذا كان خبز الشعير الذي لا شأن له، ويتنزه اليوم الناس عن أكله ما شبع منه النبي ﷺ يوميين متتابعين فكيف بألوان الملاذ والمطاعم والمأكولات التي أصبحت ترد إلينا من الشرق ومن الغرب، فأصبح الإنسان يأكل ما لذ وطاب مما عرف اسمه، ومما لم يعرف اسمه، وصارت الموائد تتضمن أنواعًا كثيرة من المطعومات الشرقية والغربية، وصارت عناية كثير من الناس اليوم بمثل هذه الأمور، وأصبح الإنسان لا يرده إلا نفسه، يذهب إلى أكبر الأسواق ويشتري ما يشاء يتخير من ألوان الثمار واللحوم وأنواع الأطعمة الكثيرة المتنوعة، وهذا لم يعرف قبل ذلك فيما نعلم في القرون التي مضت بمثل هذه الصورة تأتي الثمار من أقاصي الدنيا تفسد قبل أن تصل، أما الآن فإنها تصل في ساعات كما تعلمون، بل رأينا كثيرًا من البلاد يوجد عندهم من أطايب الثمار ما لا يعرفه أهلها يُصّدر ولا يراه الناس هناك، هذا شيء شاهدناه، ولا يأكلون إلا الرديء من ألوان الطعام والثمار، والجيد مما تنبته أرضهم الغناء التي تجوبها الأنهار في كل ناحية يصدر لغيرهم لشدة حاجتهم وفقرهم.
فأقول: حينما نقرأ هذه الأحاديث ليس المراد أن الإنسان يأكل خبزًا أو يجعل نفسه كما يقول بعض الناس: اجعل لنفسك ولأهل بيتك يومًا لا تأكلون فيه، نقول: ليس هذا من العمل المشروع، وإذا كان الإنسان يجد فإنه يأكل لكن المقصود ألا يكون ذلك هو غايته، ما يكون غاية الإنسان واهتماماته منصبة على الأكل، ويدور في هذا الفلك الإنسان لو نظر إلى كلام المتخصصين في الأغذية ماذا يأكل الإنسان من البروتينات، والنشويات، وكم يحتاج من السكريات فإن هذا من أجل أن ينفذ هذا الجدول يحتاج أن يوقف العمر من أجل هذا، ما له شأن إلا كم هذا من رطل، وكم هذا يصل إلى كذا، وهل وصل هذا إلى النسبة، أو ما وصل إليها، فيكون همه وعمله في مثل هذه الأمور وما نتج عنها وترتب عليها من هذه الأندية التي انتشرت بسبب انتشار الترهل والترف والتوسع في الملاذ والمطاعم والمآكل والمشارب، هذه الأندية التي للأجسام منها ما هو متخصص بالتخفيف منها، ومنها ما هو متخصص بالزيادة فيها.
ومنها ما يتخصص بفتل العضلات، وما إلى ذلك، فأصبحت هذه تمثل ظواهر في المجتمع، وأصبحنا نجد أمراضًا متنوعة بسبب التخمة، وكثرت هذه الأمراض أمراض السكر وضغط الدم وارتفاع الكوليسترول وغير ذلك هو بسبب هذه النعم التي أفاضها الله علينا مع قلة الحركة، وكثرة هذه الأطعمة في السابق المرض المعروف النقرس يسمى بداء الملوك، والسبب أنهم يعتقدون أن الملوك لما كانوا قديمًا هم الذي يجدون اللحم يأكلون اللحم فيصيبهم هذا النوع من المرض، واليوم يصيب أي أحد من الناس؛ لأن هذه الأشياء متوفرة لدى الجميع، وهكذا ينبغي أيضًا ألا نقيس حظوظنا من الدنيا بما عندنا من المآكل والمشارب أو نقيس الآخرين بما عندهم ما يتوفر لهم من مثل هذا.
وكذلك أيضًا أن الإنسان لا يغضب من أجل أكلة، ويرضى من أجل أكلة، بعض الناس قد يطلق امرأته من أجل أن الطعام زاد ملحه أو نقص، أو وجدها لم تصنع الطعام الذي يعجبه، أو نحو هذا، فيغضب ولربما هجرها مدة طويلة من أجل بطنه، الكبير هو الذي لا يعيش من أجل بطنه، لا يعيش من أجل هذه الأمور الدنية، الجوع يمكن أن يسد بكسرة خبز يابسة.
أما أن يعيش الإنسان من أجل هذا ويرضى من أجل هذا، ويغضب من أجل هذا، ويكون عنده المعيار في الحظ والنعمة التي يؤتاها، أو يؤتاها الآخرون بهذه الملاذ والمآكل فهذا غير صحيح، أضف إلى ذلك أمر آخر يطلب وهو أن لا يكون المقصود أن يذل الإنسان نفسه من أجل هذه الأمور، هذه الأمور إذا حصلت أكل الناس، وإذا ما حصلت فالحمد لله تأتي العافية، النبي ﷺ هذا حاله ما شبع من خبز الشعير ثلاثة أيام.
وأمر آخر وهو ألا تذهب نفس الإنسان أحيانًا حسرات من أجل أولاده لا يأكلون كما ينبغي، بعض الناس بهذه الصفة الولد لا يأكل يا أخي، إذا جاع يريد أن يأكل ما هو ميت من الجوع إن شاء الله أبدًا، أنا ضامن لك أنه لا يموت وعنده هذه الملاذ، وهذه النعم، تجده يحترق دائمًا، ويغصبهم ويجبرهم على الطعام والشراب كلوا، التسمين للعجول وليس للآدميين، نحن بحاجة إلى تربية الناس تربية فذة، تربية جيدة، تربية على مكارم الأخلاق، والمعاني الحسنة، ونربيهم على دين الله أما أن تكون التربية من أجل أنه يأكل، من أجل التسمين، فهذا غير صحيح، بل إن كثرة الترف تورث البلادة؛ ولهذا فإن الحيلة والحرفة في أبناء الفقراء، والبلادة في أبناء الأغنياء غالبًا؛ لأن كل شيء موفر له، فلو أن السيارة ما اشتغلت لأدنى شيء، -لا يعرف كيف يفتح الكبوت-، ما عليه إلا أن يتصل وتأتيه سيارة جديدة، ويأتي من يأخذه من هذا المكان لكن الفقير الذي ما جاءه سيكل أو السيارة هذه إلا روحه طالعة معها، يفكها مسمار مسمار، فلا نربي أولادنا على الترف، وأيضًا لا نشعرهم بالحرمان في نفس الوقت، فينظرون إلى الآخرين فيتأثرون، وقد يحملهم هذا على شيء من الأمور المكروهة، هذا خطأ، وهذا خطأ، توسع غير صحيح، فإن ذلك يكون سببًا للكفر بنعمة الله ، وألا يكون الإنسان مقدرًا لها حق قدرها، يزهد في النعمة، ويبطر، وما يعجبه شيء لا يرضيه شيء، إذا كان كل شيء مبذول لا يرضيه شيء، لكن إذا كان يجد أحيانا وأحيانا لا يجد لكن بمجرد أي أكلة تسنح له أن يرفع السماعة ويطلب من ألوان المأكولات الشرقية والغربية ويأتونه إلى البيت بهذه الطريقة هذا غير صحيح، أحيانا لا مانع من باب التغيير لكن أن يكون هذا ديدنه لا يعجبه العجب لا يبقى مطعم في البلد ولا بيتزا ولا مكان إلا ويعرفه وجربه وتذوقه، ويعرف مواصفات هذا، هذه حياة؟ وهذه تربية؟ وهذه عيشة؟!!
هذه لا تصلح أبدًا فنحن لا نقول من خلال هذه الأحاديث بأن الإنسان لا يأكل إلا خبز الشعير، وإلا يمر عليه ما يشبع يومين، لا، يأكل مما وجد لكن يراعي هذه الأمور التي ذكرتها آنفًا؛ لئلا نبطر النعمة؛ لئلا نعيش من أجل الأكل؛ لئلا تصيبنا الأدواء والأمراض المستعصية، -والله المستعان-.
والحديث الآخر حديث عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "والله يا ابن أختي إنا كنا ننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله ﷺ نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله ﷺ جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، -يعني الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع لبنها-، وكانوا يرسلون إلى رسول الله ﷺ من ألبانها فيسقينا"[3]، متفق عليه، يعني رواه البخاري ومسلم.
شهران لا يوقد نار نحن هل يمر يوم واحد ما يوقد نار في بيتنا يوم واحد يوم هل يحصل هذا؟
أبدًا، أبدًا، هل نبقى يوم واحد ما عندنا طعام؟ هل خرج منا واحد في يوم من الأيام كما خرج رسول الله ﷺ من شدة الجوع؟
أبدًا، هل نحن أكرم على الله من رسوله ﷺ؟
لا، هل قمنا بشكر هذه النعم كما ينبغي؟
أبدًا، نحن في غاية التقصير، فنحتاج أولاً أن ندرك أننا في تقصير، وندرك أن نعم الله علينا وافرة كثيرة جدًا فيكون هذا سببًا لمزيد من الإقبال على الله، والشكر، والعبادة، والطاعة، وكل ما نقدمه ونعمله ونبذله هو قليل في حق الله أما أن يبقى الإنسان سائرًا بعيدًا معرضًا لا يتذكر، ولربما يتذمر دائمًا لا يعجبه شيء، متسخط من كل شيء، لا يرضيه شيء، لا يشبعه شيء، فهذه مشكلة ينبغي للإنسان ألا يقع في هذه الصفة، وهذه الحال، -نسأل الله العافية-.
وقد يرد على هذا سؤال وهو أن النبي ﷺ كان كما هو معلوم لما فتح الله عليه الفتوح في النضير وقريظة وخيبر كان يدخر من الفيء لأهله قوت سنة، ويجعل الباقي في الكراع؛ لأن النبي ﷺ له الخمس خمس الخمس من الغنيمة، وله الخمس من الفيء، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الحشر:7]، إلى آخره.
وهكذا في الغنيمة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41]، والصحيح أن سهم الرسول ﷺ مع سهم الله هو سهم واحد خمس الخمس من الغنيمة، والخمس من الفيء كله فكان يأخذ قوت سنة لعياله والباقي.
فهذه الأحاديث يمكن أن تحمل على ما قبل هذه التوسعة التي وسع الله بها عليه، والأحسن أن يقال -والله أعلم-: كما ذكر النووي[4] أن ذلك كان يدخره ﷺ لأهله لكنه كان جوادًا يعطي ولا يرد سائلاً.
- أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2970)، ولم أجده بهذا اللفظ عند البخاري.
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يأكلون، برقم (5416)، ومسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2970).
- أخرجه البخاري، في أوائل كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، برقم (2567)، ومسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2972).
- انظر: المجموع شرح المهذب (19/ 369).