الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: أيُّها الأحبة، كنا نتحدَّث عن قول النبي ﷺ: ألا أُخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذَّهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله [1].
فهنا لما جعل الذكرَ أفضل من هذه العبادات المتعدية في نفعها: من الصَّدقة، والجهاد في أعلى صوره، وأرفع درجاته: أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقَكم، استشكل العلماءُ ذلك؛ باعتبار ما ورد في فضائل هذه الأعمال.
وقد أوردتم أمس في سُؤالاتكم ما مجموعه ينتظم منه هذا الإشكال، والعلماء -رحمهم الله- أجابوا عن هذا بأجوبةٍ:
الأول: ما ذكره الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- عند شرحه لبعض ما جاء في الذكر من أنَّ المراد بالذكر هنا في هذا الحديث -حديث أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه- المراد الذكر الكامل الذي يحصل فيه التَّواطؤ بين اللِّسان والقلب؛ فاللسان يكون ذاكرً لاهجًا بذكر ربِّه -تبارك وتعالى-، والقلب يكون حاضرًا مُواطئًا له، فاجتمع القلبُ واللِّسانُ على هذه العبادة الجليلة؛ فالقلب يستحضر عظمةَ المعبود -تبارك وتعالى-، ويستحضر معاني هذه الأذكار، وما في مضامينها من الهدايات، فيكون بهذا الاعتبار أفضل -على هذا القول وعلى هذا الجواب- من ذاك الذي يُقاتل الكفَّار من غير استحضارٍ لذلك؛ يعني: لا يقوم في قلبه ما يقوم بقلب ذلك الذَّاكر الذي قد استحضر عظمةَ الله ، وحضره قلبُه مع الذكر[2].
ومن ثَمَّ فهو يقول بأنَّ أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللِّسان المجرد، يعني: لو فُرِضَ أنَّ أحدًا يذكر الله بلسانه من غير مُواطأة القلب، فالجهاد أفضل من ذلك، فهذا عملٌ، وهذا عملٌ، ولكن الذي يذكر ربَّه مع مُواطأة القلب يكون في حالٍ أفضل من المجاهد وغير المجاهد؛ لأنَّه اجتمع له بذلك عبادةُ القلب وعبادةُ اللِّسان بالذكر، وهما من أجلِّ العبادات وأشرفها وأفضلها.
وهكذا أيضًا ذاك الذي يتصدَّق أو يصوم، فإذا كان هذا المجاهد أو المتصدّق أو الصَّائم قد حصّل الذكر مع هذا العمل الشَّريف من: صدقةٍ، أو جهادٍ، أو صيامٍ، أو غير ذلك، فيكون قد بلغ صاحبُه الغاية القصوى، هذا سيأتي ما يُوضحه أكثر.
هذا قول الحافظ ابن حجر، يعني: خُلاصته أنَّ الذي يذكر الله بلسانه وقلبه أفضل من ذاك الذي يُجاهد الكفَّار من غير ذكرٍ لله -تبارك وتعالى-، والسَّبب في هذا أنَّ الجهاد إنما أُقيم من أجل إقامة ذكر الله تعالى، فذكر الله غايةٌ وهدفٌ، والجهاد وسيلةٌ، والغاية أفضل وأكمل وأشرف من الوسيلة بهذا الاعتبار، على هذا الجواب.
جوابٌ آخر ذكره أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-: وذلك أنَّه ما من عملٍ من الأعمال الصَّالحات إلا وذكرُ الله -تبارك وتعالى- مُشترط في تصحيحه، وذلك أنَّ مَن لم يذكر ربَّه -تبارك وتعالى- بجهاده، أو صيامه، أو صدقته مثلًا، فليس عملُه كاملًا، وهو هنا يُشير إلى ذكر القلب أنَّه لا بدَّ منه[3].
يقول: فصار الذكرُ أفضل الأعمال من هذه الحيثية، باعتبار أنَّ هذه الأعمال في الصور اللائحة في الظَّاهر من: صدقةٍ، أو جهادٍ، أو نحو ذلك، إن خلت البواطنُ مما يُصححها ويُقويها ويضبطها؛ فإنها تكون أعمالًا ناقصةً، بل قد تكون أعمالًا حابطةً إذا فسدت فيها المقاصد، فلا بدَّ إذًا من ذكر الله -تبارك وتعالى- بكل عملٍ، أن يُريد به ما عنده، أن يُخلص لله -تبارك وتعالى-، أن يتذكر أنَّ الله هو المنعم المتفضّل، أنَّه هو الذي وفَّقه، وهداه، واجتباه، وأعانه، وقوَّاه، ورزقه، وأعطاه، فصار عاملًا بهذه الطَّاعة: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، كما في حديث عائشة كما سبق في بعض المناسبات: يتصدَّقون، ويصومون، ويُصلون، ويُجاهدون، ويخافون ألا يقبل منهم[4].
وابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "لو أعلم أنَّه قُبلت لي سجدة واحدة لم أبالِ"، لماذا؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[5]، فهذا ذكرٌ للقلب، فيكون هو الأصل، فابن العربي نظر إلى هذا المعنى، ومن ثمَّ ترجح الذكرُ على هذه الأعمال، وليس المرادُ به مجرد الذكر باللِّسان من غير مُواطأة القلب على قول هؤلاء.
الحافظ ابن القيم له جوابٌ ثالثٌ، وهو أجود ما وقفتُ عليه من أجوبة أهل العلم، وفيه مزيد شرحٍ وإيضاحٍ وتفصيلٍ وبيانٍ على ما قاله الحافظُ ابن حجر، وإن كان لا يُعارضه، ولكنَّه أشمل وأوضح وأكمل.
فابن القيم -رحمه الله- يقول: المراتب ثلاث. مراتب الأعمال والعاملين ثلاث، هنا ذكرٌ وجهادٌ معًا، ودعونا نجعل المثالَ بما ذكره الحافظُ ابن القيم: وهو الجهاد باعتبار أنَّه ذروة سنام الإسلام، وورد فيه من الفضائل كما في حديث عشر من ذي الحجّة، وفضل العمل فيها، وقال: إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيءٍ[6].
إذًا عندنا المرتبة الأولى، المرتبة العُليا: ذكرٌ وجهادٌ، فاجتمع فيها الذكرُ مع الجهاد، فهذا بلغ الغاية؛ ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، إذا لقيتم فئةً فاثبتوا في ميدان المعركة، واذكروا الله كثيرًا لعلكم تُفلحون؛ أي: من أجل أن تُفلحوا.
فذكر الله -تبارك وتعالى- مطلوبٌ في أشدّ المواقف، عند التحام الصُّفوف، إِذَا لَقِيتُمْ، ما قال: إذا خرجتم إلى الجهاد. فالذكر فيه مطلوبٌ، ولكنَّه أيضًا إذا حصلت المواجهة والالتحام مع العدو، فهنا ذكر الله -تبارك وتعالى- مطلوبٌ.
وهذا له من الفوائد والمنافع والآثار الشَّيء الكثير؛ به تحصل الطُّمأنينة حينما تتحرك القلوب، حينما تتطاير الرؤوس، ويحضر حمم الموت، وتهتزّ وتضطرب كثيرٌ من القلوب، فالعبد في هذا المقام يحتاج إلى ذكرٍ ليثبت، وليس بحاجةٍ إلى كاميرات، فتضطرب عليه نيّته، وينفرط عليه قصده وإخلاصه، هو بحاجةٍ إلى ذكرٍ، وإخباتٍ، وخفاءٍ في العمل، أحوج ما يكون العبدُ في هذا المقام إلى الانقطاع من كل الأسباب، وإلى جميع أنواع الالتفات في هذا المقام.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: من أجل أن تُفلحوا، وما أضرّ على المجاهدين من هذه الكاميرات التي لربما تخطف النّيات؛ فيحصل الفشل والتراجع والهزيمة.
هذه أمور نحتاج أن نتفطن لها؛ من أجل أن نبقى على حالٍ من السَّداد والعمل الصَّالح؛ لأنَّ الإنسان يبذل أغلى ما عنده، وهو مُهجته، فلا بدَّ أن تكون النيةُ صافيةً في هذا المقام، وهنا يحتاج إلى ذكر الله بالقلب واللِّسان كثيرًا، وليس ذاك بالشيء القليل؛ لأنَّ هذا هو الزاد الحقيقي؛ لأنَّ النصر من عند الله، فالله لما أنزل الملائكةَ قال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] بأقوى صيغةٍ من صيغ الحصر: النَّصر من عند الله، ليس بقوتكم، بإمكاناتكم، ليس بمدد السَّماء من الملائكة، إنما من الله وحده.
فهنا ترتبط القلوب به -تبارك وتعالى- فيحتاج العبدُ إلى ذكرٍ كثيرٍ بقلبه، وإلى ذكرٍ كثيرٍ بلسانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
فهنا المرتبة الأولى: ذكرٌ وجهادٌ، هذا أعلى المراتب.
المرتبة الثانية: وهو الذِّكر بلا جهادٍ، فهذا أفضل من جهادٍ بلا ذكرٍ، وأفضل من صدقةٍ بلا ذكرٍ؛ يعني: من غير حضور القلب، ولا ذكر اللِّسان، فذكر القلب واللِّسان أفضل من جهادٍ بلا ذكرٍ، ومن صدقةٍ بلا ذكرٍ، ومن صومٍ بلا ذكرٍ.
المرتبة الثالثة: وهي الجهاد بلا ذكرٍ.
صار عندنا إذًا بالترتيب أعلاها: جهادٌ وذكرٌ. المرتبة الثانية: ذكرٌ بلا جهادٍ. المرتبة الثالثة: جهادٌ بلا ذكرٍ. وضع مكان الجهاد: صوم، صدقة، أعمالٌ أخرى من الأعمال الصَّالحة، وذلك كما سبق؛ لأنَّ الجهادَ وسائر الأعمال -كالحجِّ والعمرة- إنما شُرع ذلك لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-.
وهذه الأجوبة كما ترون قريبة.
الجواب الرابع قاله جماعةٌ من أهل العلم: أنَّ المراد بذلك فئة معينة، فئة خاصَّة، أنَّ النبي ﷺ وجَّه هذا الخطاب لقومٍ مُعينين، وليس لكل الأُمَّة، فهؤلاء بالنسبة إليهم وإلى قدرهم وإمكاناتهم الذكر أفضل الأعمال بالنسبة إليهم، بمعنى: أنهم ليس فيهم قوّة، وبلاء، وشجاعة، وبأس، وإنما العبادة التي يمكن أن تتأتَّى منهم هي الذِّكْر.
يقولون: لو خُوطِب بذلك الشُّجاع الباسل المتأهِّل للنَّفع في القتال لقيل له: الجهاد، ولو خُوطِب به غيره فإنَّه قد يُذكر له عملٌ يُناسبه، ويصلح لمثل حاله: إن كان غنيًّا قيل له: الصَّدقة، وهكذا فقد يكون بالنسبة لهذا المعين تعليم الناس أفضل من الجهاد، وبالنسبة لذاك الصَّدقة أفضل من الجهاد، وبالنسبة للآخر الذكر أفضل من الجهاد، أمَّا ذاك الشُّجاع القويّ الذي فيه بلاءٌ ونفعٌ ودفعٌ وبأسٌ؛ فالجهاد أفضل في حقِّه، فيكون ذلك مُراعًا فيه أحوال المكلَّفين، وأحوال المخاطبين.
وهذه الأجوبة يُشبهها في هذا الجوابُ الرابع، تجدون ما يُشبهه في الكلام على قوله ﷺ: خيركم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه[7]، قالوا: أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- كبار الصَّحابة، بعض هؤلاء لم يشتغلوا بتعليم القرآن: تعلَّم القرآنَ وعلَّمه، ما قال: تعلَّم القرآنَ أو علَّمه. بل جمع بين الأمرين، فكيف يكون الذي تعلَّم القرآنَ وعلَّمه أفضل: خيركم؟
بعضُهم يقول: خاطب مُعينين كانوا أمامه، فوجَّه إليهم الخطاب، فيقول لهم: خيركم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه، فلا يسر هذا الحكم على جميع الصَّحابة، أو جميع الأُمَّة.
هكذا قال بعضُ أهل العلم، نفس السؤال، ونفس الإشكال.
جوابٌ خامسٌ: قدّم بين يديه احتمالات، وتساؤل، ذكره صاحبُ "المنتقى" في "شرح الموطأ" حينما تكلَّم عن قوله لما أجابهم النبيُّ ﷺ، قال: ذكر الله تعالى، قال: الذكر هنا يحتمل معانٍ: فهناك ذكرٌ باللِّسان، وهناك ذكرٌ عند الأمر والنَّهي بالامتثال والعمل بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وهناك ذكرٌ بالقلب مع جميع ذلك[8].
إذًا هناك ذكرُ اللِّسان، وهناك ذكرٌ قلبيٌّ، وهناك ذكرٌ عمليٌّ واقعيٌّ بالجوارح: أن يمتثل، أن يعمل بطاعة الله، وأن يكفَّ عن محارمه، ويحفظ حدوده، فهنا الذكر باللِّسان على نوعين -كما سبق-: واجبٌ، ومندوبٌ. قالوا: فالواجب مثل: قراءة الفاتحة في الصَّلاة، وتكبيرة الإحرام، والتَّسليم في الصَّلاة، وما جرى مجرى ذلك، والمندوب سائر الأذكار من: قراءة القرآن، والتَّسبيح، والتَّهليل، ونحو هذا.
قالوا: أمَّا الواجبُ من الذكر فمُمكنٌ، يحتمل أن يفضل على سائر أعمال البرِّ من الجهاد، والزكاة، وغيرهما؛ يعني: يمكن أن يكون المرادُ الذكر الواجب؛ لأنَّ كلمة "ذكر" مُجملة، يدخل تحتها الذكرُ الواجب، والذكرُ المستحبُّ.
قالوا: ويمكن أن يكون المرادُ الذكر الواجب؛ أنَّه أفضل من سائر الأعمال، وهذا المصلِّي الذي يذكر ربَّه -تبارك وتعالى- بهذا الذكر أفضل منه في هذا العمل، في هذه الصلاة، من ذاك الذي يُجاهد، والمقصود هنا حينما تكون الصلاةُ واجبةً؛ يعني: صلاة الفرض، إمَّا على الإطلاق، وإمَّا في وقتٍ من الأوقات، أو على حالٍ من الأحوال.
يعني: كما قال شيخُ الإسلام في مسألةٍ أخرى في بيان أفضل الأعمال، يقول: أفضل الأعمال يختلف؛ فإذا نادى المنادي للجهاد؛ فأفضل الأعمال الجهاد، وإذا جاء وقتُ الحجِّ؛ فأفضل الأعمال الحجّ، وإذا أذَّن المؤذنُ؛ فأفضل الأعمال الصَّلاة، وهكذا بعد الانصراف من الصَّلاة أفضل الأعمال أذكار الصَّلاة[9].
يقولون: أمَّا المندوب فيحتمل أن يفضل على سائر أعمال البرِّ المندوب إليها؛ لمعنيين:
الأول: أنَّ الثوابَ عليه أعظم، كما يدل عليه ظاهرُ الحديث.
الثاني: باعتبار التَّكرار والكثرة، فيفضل غيره من الأعمال لكثرته.
هذا ما يتعلَّق بهذه الجملة وهذا السؤال والإشكال، وجواب العلماء عنه بهذه الأجوبة، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3377)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2269).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210).
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة المؤمنون، برقم (3175)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"، برقم (2537).
- انظر: "الروح" لابن القيم (228).
- انظر: "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم (28).
- أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم مَن تعلم القرآن وعلَّمه، برقم (5027).
- انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 355).
- انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 387).