الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكان الحديث حديث أبي هريرة الذي قال فيه: "والله الذي لا إله إلا هو إنْ كنتُلأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإنْ كنتُ لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي النبي ﷺ حين رآني، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق ومضى، فاتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخلتُ فوجد لبنًا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأتون على أهل ولا مال، ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها"[1].
إلى هنا تحدثنا في الليلة الماضية، ثم قال: "فساءني ذلك، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟، كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله بدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، واستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح حتى انتهيت إلى النبي ﷺ وقد رَوِي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، يعني: كأنه ﷺ عرف أو وقع في نفسه ما يجول في قلب أبي هريرة ، وماذا عسى أن يفعل هذا القدح في أهل الصفة؟ فتبسم فقال: أبا هر قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت وقد يؤخذ من هذا أن الذي يسقي القوم يكون في الآخر، وكذلك يؤخذ منه أن الرجل إذا كان لربما ليس هناك كلفة بينه وبين الرجل أنه يسوغ له أن يطلب منه مثل هذا، بمعنى أنه في بيته، فصار أبو هريرة هو الذي يقوم بأمر رسول الله ﷺ بسقيهم هذا اللبن، ولا يكون ذلك معيبًا بأن الرجل يستخدم أضيافه، فإن أبا هريرة من المنزلة من رسول الله ﷺ بحيث إنه لم يجد كلفة في أن يفعل ذلك، أو أن يأمره النبي ﷺ، فقد لزم النبيَّ ﷺ على ما يشبع بطنه، فقط، يعني: هو ممن يتبع رسول الله ﷺ ليأخذ عنه الحديث، ولذلك النبي ﷺ طلب منه أن يسقي هؤلاء، فلا بأس إذا كان الرجل بهذه المثابة، بحيث يكون له من الصلة والعلاقة بالرجل ما لا يجد معه كلفة أو نحو ذلك أن يقوم بمساعدته أو بخدمة أضيافه، أو نحو ذلك، ولا يكون في ذلك غضاضة، لا على الأول ولا على الثاني.
والنبي ﷺ أكمل الناس خلقًا، وأما ما قاله بعض المتقدمين في الحِكم أو قاله بعض السلف بأنه ليس من المروءة أن يستخدم الإنسان أضيافه فهذا إذا كان من الضيوف الذين طرءوا على الإنسان وأضافهم ونحو ذلك.
أما إذا كان الرجل بمنزلة منه، بحيث إنه يكثر الدخول عليه ومجالسته ونحو ذلك فإذا طرأ عليه آخرون فإن هذا كأنه من أهل الدار، فلا إشكال في هذا، أما أن يأتي الضيوف يرِدون على هذا الإنسان ويقول: قوموا، افعلوا كذا، قدموا الطعام، صبوا، افعلوا، فإن ذلك لا شك أنه يحرجهم، وأبو هريرة ليس بهذه المثابة.
وهذا فيه معجزة للنبي ﷺ قدح من لبن شرب منه أهل الصفة جميعًا، وهم كثر، والنبي ﷺ له معجزات مشابهة، لما كان في غزوة تبوك ونفدت الأزواد واستأذنوه في أن ينحروا بعض الجزور، فجاءه عمر وذكر له ما ذكر من أن ذلك يفضي إلى نفاد الظهر، يعني: ما يكون لهم مراكب، فأشار عليه بأن يجمع أزوادهم، وأن يدعو، فجمعها النبي ﷺ في بساط واحد ووضعت، هذا يأتي بشيء من تمر، وهذا يأتي بشيء من بر، حتى اجتمعت وهي شيء يسير قليل، فدعا الله فكان ذلك سببًا لكثرتها وبركتها، حتى تزود منها القوم جميعًا، في غزوة تبوك جيش كامل أكثر من ألف مقاتل، بل أكثر من هذا، في غزوة تبوك أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل أخذوا من هذا البساط الصغير الذي فيه بقايا الأزواد[2].
وهكذا نبْعُ الماء بين أصابعه ﷺ، لمّا قلّ الماء وضع أصابعه ﷺ فيقول الراوي: فكأني أرى الماء ينبع من بين أصابعه ﷺ[3].
وهكذا في قصة الخندق لما كانوا يحفرون الخندق في غداة باردة، وجابر بن عبدالله رأى النبي ﷺ قد ربط على بطنه حجرين، والصحابة قد ربطوا حجرًا حجرًا، فرجع إلى امرأته، وقال: لقد رأيت من رسول الله ﷺ شيئًا لا أطيق الصبر معه، عندك شيء؟ قالت: عَناق وبُرمة، فذهب إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله، تدعو معك رجلًا أو رجلين، فسأله النبي ﷺ عن الطعام فأخبره، فدعا أهل الخندق جميعًا، فرجع جابر إلى امرأته وهو يقول: ويحك، ويحك، النبي ﷺ دعا أهل الخندق، ماذا عسى يكفي هذا العَناق وهم في غاية الجوع؟، وهي امرأة حكيمة وعاقلة، فسألته هل سألك رسول الله ﷺ؟، قال: نعم، فعرفت أنها ستكون معجزة، فدخل النبي ﷺ والبيت ما يكفيهم، فجعلوا يدخلون عشرة عشرة، والنبي ﷺ هو الذي يخرج الطعام من التنور، فالشاهد أنهم أكلوا جميعًا حتى شبعوا، وبقي الطعام على حاله، بل أوفر ما كان، وأمرهم أن يأكلوا منه، وأن يعطوا من حولهم، قال: فإن الناس قد أصابتهم مجاعة[4]، فعليه صلاة ربي وسلامه.
يقول: "فأخذ القدح على يده فنظر إليّ فتبسم"، فقال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب وهذا هو الأدب أن يشرب الإنسان جالسًا، والنبي ﷺ قال: لا يشرب أحدكم قائمًا[5].
ولما سأله الرجل، قال: أترضى أن تشرب معك الهرة؟ قال: لا، قال: فإنه يشرب معك ما هو أعظم من ذلك، يعني: الشيطان.
وقال: لو يعلم الشارب قائمًا ما في بطنه لاستقاء، يعني: يخرج ما في بطنه.
يقول: اقعد، فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول: اشربحتى قلت: "لا، والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا" هو في البداية كان خائفًا أن يُدعى أهل الصفة من أجل أن لا ينتهي هذا اللبن، والآن يقول: "لا أجد له مسلكًا"، وهذا يدل على أن الإنسان يجوز له أن يأكل أو يشرب ما يزيد على الثلث، النبي ﷺ أخبر أنه ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس، لكن هذه حالات عارضة ليست هي العادة، أما الشبع الدائم فإنه لا شك مجلبة للأسقام وتعطيل للأفهام وهو عنوان البلادة وسبب لقسوة القلب، وقد سئل الإمام أحمد أيجد الرقة مع الشبع؟ قال: لا أراه، وكما قيل: البِطنة تُذهب الفطنة، وتسبب للإنسان خثورة النوم، ووهنه، والضعف والثقل عن العبادة، وعن معالي الأمور، وعن الجد والسعي في أمور الحياة الدنيا والآخرة.
الشاهد: فقال له: اشرب يقول حتى قلت: "لا، والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا".
قال: فأرني فأعطيته، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة، وهذا من تواضعه ﷺ، وهذا يدل أيضًا على أنه لا بأس أن يشرب الناس من قدح واحد، وهذا لا شك أنه أيضًا يدل على تواضع النبي ﷺ من جهة أخرى؛ لكونه آخر من شرب، وهو أيضًا يشرب بعد هؤلاء جميعًا أهل الصفة، وهؤلاء قد لا يكونون بتلك المنزلة من تعاهد الثياب، هم فقراء، وهم في غاية الجوع، ويشربون من إناء واحد، والنبي ﷺ يشرب بعدهم جميعًا، فهذا لكمال تواضعه ﷺ، ولو أن أحدًا كان بذلك المحل لربما قد يأنف أن يشرب مع الفقراء أو يشرب بعدهم، لكن النبي ﷺ كمل له ربه -تبارك وتعالى- الأخلاق، وكان مثالًا في التواضع لأصحابه ﷺ.
هكذا كانت حياتهم، فنسأل الله أن يلحقنا بهم، وأن يحشرنا تحت لوائه ﷺ، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، (8/ 96)، برقم: (6452).
- انظر: صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، (3/ 137)، برقم: (2484)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار، (1/ 55)، برقم: (27).
- انظر: صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من التَّوْرِ، (1/ 51)، برقم: (200)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي ﷺ، (4/ 1783)، برقم: (2279).
- انظر: في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، (5/ 108)، برقم: (4102)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/ 1610)، برقم: (2039).
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائما، (3/ 1600)، برقم: (2024)، عن أنس بلفظ: "أن النبي ﷺ زجر عن الشرب قائما".