الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله ﷺ: خيركم قرني هذا خطاب لمن حضره من أمته ﷺ، والقرينة ظاهرة فيه على أن المراد بهذا الخطاب عموم الأمة؛ لأنه يقول: خيركم قرني فالذين حضروا أيامه ﷺ وعاصروه هم قرنه، وهو يقول: خيركم قرني و"خير" هنا أفعل تفضيل، أو يراد بها معنى التفضيل، يعني: أفضل هذه الأمة هو القرن الذين بعث فيهم رسول الله ﷺ وآمنوا به، ويحتمل أن يكون هذا لعموم الخلق "خيركم" كما جاء في رواية للحديث خير الناس قرني[2]، وفي رواية أخرى: خير أمتي قرني[3] فإذا قيل: إن المراد عموم الناس، خير الناس قرني فلا يعني: أنهم أفضل من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وإنما المراد أنهم أفضل القرون على الإطلاق وهذا لا إشكال فيه، أن أصحاب النبي ﷺ والقرن الذين بعث فيهم هم أفضل القرون على الإطلاق، فأصحابه خير من أصحاب موسى، وخير من أصحاب عيسى، وخير من أصحاب سائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيصح هذا بهذا الاعتبار، خير الناس قرني، خير أمتي قرني، خيركم قرني، هذه ثلاث روايات.
والعلماء مختلفون في القرن، وفي تحديد مدته، فذهب بعضهم إلى أن الأحسن فيه أن لا يحد بمدة، وإنما يفسر بأن المراد به أهل زمان اشتركوا في أمر معين، فالذين كانوا في زمن النبي ﷺ قرنه الذين هم أفضل القرون اشتركوا في أمر وهو أنهم لقوا النبي ﷺ، اشتركوا في صحبته ﷺ فكل من لقيه مؤمنًا به، ومات على ذلك فإنه يثبت له هذا الشرف وهو الصحبة، فإذا قال: خير أمتي قرني، فيشمل ذلك قرن الصحابة إلى أن مات آخرهم وذلك بنحو سنة 120 من الهجرة خير أمتي قرني.
قال ﷺ: ثم الذين يلونهم وهم التابعون، والتابعي هو: من رأى الصحابي، أو من لقي الصحابي فأولئك الجيل الذين جاءوا بعد الصحابة ولقوا أصحاب النبي ﷺ ولم يلقوا رسول الله ﷺ هؤلاء هم الذين يلونهم، وهم أبناء الصحابة ومن في حكمهم.
قال: ثم الذين يلونهم وهم الذين لقوا التابعين، ولم يلقوا أصحاب النبي ﷺ، فهذه القرون الآن صارت ثلاثة، قرن الصحابة، وقرن التابعين، وقرن أتباع التابعين.
قال عمران: فما أدري قال النبي ﷺ مرتين أو ثلاثًا، يعني: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فيدخل فيه طائفة ثالثة من التابعين، يعني: يكون التابعون على ثلاث طبقات، طبقة كبار التابعين، وطبقة أوساط التابعين، وطبقة صغار التابعين، وحدّ بعض أهل العلم آخر عهد التابعين بحدود سنة 220هـ، هذه آخر طبقة من طبقات التابعين.
قال عمران: فما أدري قال النبي ﷺ مرتين أو ثلاثًا، ثم يكون بعدهم قوم يَشهدون ولا يُستشهدون.
صح عن النبي ﷺ أن خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه[4]، والجمع بينه وبين هذا الحديث كما ذكره بعض أهل العلم: أن المراد فيمن أثنى عليهم النبي ﷺ في خير الشهود في كون ذلك مما قد يخفى على من يشهد له، فيضيع حقه، فيأتي هذا الإنسان بهذه الشهادة قبل أن تطلب منه، وبهذا يكون قد حفظ حقًا لمن شهد له.
وأما هذا الذي ورد فيه الذم وهم الذين يشهدون ولا يستشهدون فيحتمل أن يكون المراد به أولئك الذين يأتون بالشهادة وقد عرف صاحب الحق حقه، فيأتون فضولًا منهم وتسرعًا وعجلة، فيأتون بالشهادة ولم تطلب.
والشهادة ليست بالشيء السهل، ومن أهل العلم من قال: إن المراد بـ يشهدون ولا يستشهدون أنهم ليسوا بمحل للشهادة، ولا بأهل للأمانة، ولا الثقة، فهم لا يُستشهدون ولا يُلجأ إليهم فيها، ولكنهم يأتون من عند أنفسهم فيشهدون.
المقصود أن هذا يدل على قلة اكتراثهم، وعلى مسارعتهم وقلة تورعهم، فهو يبذل الشهادة ويتسارع فيها دون تحرٍّ ولا تأنٍّ ولا تثبت، ولم يطلب منه ذلك، ولكنه لفرط سرعته وتعجله وخفة عقله يأتي ويقدم الشهادة ولم تطلب منه، فهذا يدل على قلة الدين وخفة الورع والتسرع فيما ينبغي الأناة فيه.
قال: ويخونون ولا يؤتمنون -نسأل الله العافية- يعني: قد يحصل من الإنسان خيانة في أمر من الأمور نادرًا، ولكن ليس معني ذلك أن ترتفع الأمانة من قلبه وأنه لا يؤتمن بحال من الأحوال، أما هؤلاء فـيخونون ولا يؤتمنون بمعنى: أن الأمانة قد ترحلت من نفوسهم فهم لا يأمنهم أحد على شيء قل أو كثر، ثم قال: وينذرون ولا يوفون، وهذا أيضًا يدل على قلة الدين، والنذر -كما هو معلوم- مكروه لأنه كما قال النبي ﷺ وإنما يُستخرَج به من البخيل[5] وهذا وإن اختلف فيه أهل العلم في بعض صوره وذلك أن الإنسان أحيانًا قد ينظر ابتداء من غير مقابلة يعني: الذي يستخرج به من البخيل هو الذي يقول: إن نجحني الله في الاختبار سأتصدق بمائة ريال، فهو كأنه يريد أن يكون ذلك على سبيل المكافأة والمقابلة، فهو لا يتصدق إلا إن نجح، إن اجتزت الاختبار الفلاني سأتصدق بكذا، فهذا الذي يستخرج به من البخيل، لكن لو أن الإنسان قاله ابتداء لله: عليّ نذر أن أتصدق بكذا، هكذا من غير مقابل فهل هذا هو الذي يستخرج به من البخيل؟ بعض أهل العلم قال: حتى هذا مذموم لأنه لا يخرج بطواعية وسهولة نفس وإنما يلزم نفسه؛ لأن حقيقة النذر هو أن يلزم المكلف نفسه قربة لم يلزمه الشارع بها ابتداء، فهذا يستخرج به من البخيل، إضافة إلى أنه قد يُلزَم بشيء قد يعجز عنه كما هو مشاهد، نحن لا نحصي كم أولئك الذين يسألون حينما أصابه المرض أن يصوم أربعة أشهر فلما برئ بدأ يسأل ما الكفارة وما المخرج وما هو السبيل إلى الخلاص من هذا؟، وهكذا إن عافى الله فلانًا فإنني سأصوم كل اثنين وخميس ثم بعد ذلك يبدأ يسأل ما هو الحل؟ وما هي الكفارة في الخروج من هذا؟ أوفِ بنذرك والله يقول: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] فالوفاء بالنذر قربة وطاعة يحبها الله وإن كان النذر ابتداء من قبيل المكروه، على كل حال فهؤلاء لقلة دينهم ينذرون ولا يوفون، والنذر عهد مع الله .
قال: ويظهر فيهم السِّمَن هذا يدل على قلة المبالاة وكثرة الإقبال على الملذات، فإن الإنسان إذا قلت همومه وزاد إقباله على المطاعم والمشارب وصارت هي غايته وطليبته وهمه فإنه يظهر فيه السِّمَن، والمقصود بهذا في هذا الحديث الذي ورد فيه الذم هو السِّمَن الذي يكون بسبب الإقبال والإكثار من المطاعم والمشارب، بمعنى: السمن الذي يكون بسبب الشره، وأن يكون الإنسان نهِمًا في الأكل والشرب فيأكل حتى يشبع حتى يظهر عليه أثر ذلك.
فهؤلاء ليس لهم همٌّ إلا هذه البطون، أما من كان ذلك من غير إكثار ولا شره وإنما هكذا بسبب -كما يقول الأطباء- زيادة في إفراز بعض الغدد أو نحو ذلك مما يتعلق بتركيب البدن وقد يكون أكله أقل من غيره فإن هذا لا يكون مذمومًا، هذا بلاء ابتلاه الله به.
وعلى كل حال الحديث أخرجه البخاري ومسلم
هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (3/ 171)، برقم: (2651)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (4/ 1964)، برقم: (2535).
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (3/ 171)، برقم: (2652)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (4/ 1963)، برقم: (2533).
- أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ، (5/ 2)، برقم: (3650).
- أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود، (3/ 1344)، برقم: (1719)، عن زيد بن خالد الجهني بلفظ: ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها.
- أخرجه مسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا، (3/ 1261)، برقم: (1639).