الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «ليس الغنى عن كثرة العرض..»
تاريخ النشر: ٢٠ / رجب / ١٤٢٩
التحميل: 1684
مرات الإستماع: 15542

ليس الغِنى عن كثرة العرَض

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة أورد المصنف -رحمه الله- جملة من الأحاديث، وقال: وأما الأحاديث فتقدم معظمها في البابين السابقين -يعني: الأبواب التي تتعلق بالزهد، وفضل الجوع، وما أشبه ذلك تصلح هنا- ومما لم يتقدم:

حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ليس الغِنى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس[1]متفق عليه.

قوله: ليس الغِنى، يعني: ليس الغِنى الحقيقي عن كثرة العرَض يعني: بسبب كثرة العرَض، والعرَض المقصود به المال من غير النقدين، يعني: الدراهم والدنانير الذهب والفضة هذا نقد، والعرَض يقال لغير ذلك عادة، كالزروع، والدواب، والمراكب، والدور وما شابه ذلك.

ليس الغنى عن كثرة العرض يعني: ليس الغِنى الحقيقي بسبب كثرة ما عند الإنسان من الثروات من العقارات والمراكب، والشركات، وإنما الغِنى غِنى النفس وهذا من جوامع الكلم، جوامع كلمه ﷺ، فاختُصر له الكلام اختصاراً.

فهذه الجملة حوت معنىً كبيراً واسعاً، وذلك أن الواقع يشهد لهذا، قد يكون الإنسان عنده الشيء الكثير، ولكنه دائماً يرى الفقر يطارده ويلاحقه حيث ذهب، فهو يتخوف الأخذات، وما بين يديه إلا الفجائع والخسائر والكوارث والمصائب، وهبوط الأسعار، سواءً كان ذلك في سوق الأسهم، أو في سوق العقار، أو في العملات أو غير ذلك على كثرة ما عنده من الأموال، ودائماً قلِقٌ، ويشعر أنه بحاجة دائماً إلى زيادة، فكلما لاحت له فرصة أقدم عليها، فبدلاً من أن يكون عنده مائة أرض، يريد مائة وواحدة، يريد أن يكملها بالمائتين حتى يجبر الكسر، وإذا كان يملك مائة مليون فهو يريد أن يكون من أصحاب المليار، ويقول: إذا صار عندي مليار الحمد لله ما أريد أكثر، والذين عندهم مليار ما اكتفوا بهذا، وهم من أكثر الناس شغلاً بالصباح والمساء، وهم من أكثر الناس قلقاً، من الذي يقلق إذا بدت الأخبار والتحليلات والشائعات فيما يتعلق بهبوط الأسعار في العقار، ركود اقتصادي، أو ركود في الأسهم، أو خسائر في الأسهم، أو نحو ذلك، ولا زالت الصور تعرض علينا صور هؤلاء الناس، هذا وضع يده على رأسه أمام الشاشة، وهذا وضع يديه كاد أن يدخلها في وجهه، وهذا قد كادت أن تخرج عيناه بسبب ماذا؟ بسبب أن الدنيا متجذرة في قلوبهم، فنفوسهم تكاد تخرج مع مؤشر الأسهم، هؤلاء لو سألت الكثيرين منهم: أليس عندك ما يكفيك؟ في الواقع لو أجاب بجواب أنصف فيه لقال: نعم، لماذا يتفرق القلب والهم من أجل هذه الدنيا؟!.

ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس، إن الكثيرين يملكون ما يكفيهم، بحيث لا يحتاجون إلى غيرهم، ولكن مع ذلك إذا نظرت إلى هذا الإنسان الذي لربما يكون دخله خمسة آلاف في الشهر تجد أنه يرى أن هذا الوضع لابد أن يغير، ولا بد أن نحسن الوضع، فهو دائماً مشغول البال بهذه القضية.

ومن كان دخله على الضعف عشرة آلاف نفس الهمِّ، ونفس الشعور، وهذا شيء مشاهد، والذي دخله خمسة عشر ألفًا نفس الشيء، وتجد الكثيرين يحرص الواحد منهم أن يتزوج امرأة موظفة، وهذه المرأة الموظفة لربما ضم دخله مع دخلها، ومع ذلك يشعرون بالقلق، ويحسبون الحسابات الدقيقة في كل ما ينفق، لماذا؟ لأن الفقر في قلوبهم، ولا زلت أذكر كلمة سمعتها من أحد طلابنا من الجمهوريات الإسلامية سنة ألف وأربعمائة واثنتي عشرة -على صغر سنه- سألته عن أهل بلده، وكان من ضمن الأسئلة قلت له: الناس في بلدكم فقراء، أو أنهم في حال وسط، أو أغنياء؟ فأجاب بجواب معبر، قال: الفقر في قلوبهم، ولكن في أيديهم ما يكفيهم، وهذه عبارة معبرة فعلاً، فإذا كان الفقر في قلوبهم لا تسأل عن حالهم، واشتغال هذه القلوب بالتفكير الدائم الذي يشغلهم عما هم بصدده وعما خلقوا له، دائماً قلق، تفكير، خواطر، وعصر للأذهان كيف يستطيع أن يغير ويطور ويكثّر دخله، ولو كثر دخله أضعافًا نفس النتيجة.

الذين يملكون دخلا بالملايين في اليوم هل جلسوا مستريحين؟ الجواب: لا، هم أكثر الناس قلقاً، ليس الغِنى عن كثرة العرض، وأنا أعرف نماذج كثيرة من هذه، ومن أشد الناس قلقاً وافتقاراً إلى المخلوقين، أنا رأيت نماذج من هؤلاء ممن دخلهم بالملايين في اليوم، من أجل أن الولد يواصل في الدراسات العليا ما يَبقى أحدٌ إلا يؤخذ منه ورقة طوافة على أساتذة الكلية، أو الجامعة والمطلوب فقط ورقتان، طاف على الجميع حتى يكوِّن ملفًّا -ما شاء الله- ضخمًا، كل هؤلاء موقعون له، لماذا هذه المذلة؟ ولا يَبقى مسئول ولا أحد يمكن أن يدخل في الموضوع إلا ويكتب له من أجل أن يدخل، أو أحد يعرف لربما أحداً من الناس كلَّمه وهذا يوصَّى، وهذا يوصَّى وهذا يوصَّى، وأنتم في غنى عن هذا كله تستطيعون أن تشتروا هذه الكلية كلها بل الجامعة برمتها، وكل هذه المذلة لأجل أن يقبل في الدراسات العليا، ماذا نفع هذا المال وهذه الثروة؟!.

ليس الغِنى عن كثرة العرَض، إنما الغِنى غِنى النفس، رأينا من هؤلاء أشياء عجيبة، لا يتوظف الولد إلا بعد مذلة، ما يبقى أحد إلا يكلَّم من أجل هذه الوظيفة، ما حاجتكم بهذه الوظيفة؟!، هذه الوظيفة ما تأتي عشر معشار الدخل اليومي، لكن يشعر الإنسان ويتصور أحياناً أنه سيفتقر إذا ما توظف، سيفتقر إذا ترك هذه الوظيفة، كم دخله فيها؟، ربما سبعة آلاف ريال، إذن أنتم الآن ما تحتاجون إلى مثل هذا فلماذا؟، أقول: الفقر أحياناً يكون في القلب، ومن ثَمّ فإن هذا الإنسان مهما أوتي لن يحصل له الرضا، ولن تطمئن نفسه، بينما تجد من رزق القناعة، وكان همه الدار الآخرة مع التسبب -طبعاً- لكن بالشيء المعقول، أمّا أن تسخَّر طاقات الإنسان العقلية والفكرية في التفكير بهذه الدنيا فهذا هو الخطأ، فلا نخلط بين بذل الأسباب وبين غيرها.

فالنبي ﷺ يقول: من جعل الهموم همًّا واحداً جمع الله شمله، وذكر القسم الآخر وهو: من جعل الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عيني[2]، أو كما قال النبي ﷺ.

فلذلك أقول: من المهم جدًّا أن يسعى العبد إلى ترويض نفسه، وتربيتها على القناعة بما آتاه الله ، ولا يتطلع إلى الآخرين.

وقد سبق الكلام على بعض الأحاديث من أن الإنسان في الأمور الدنيوية ينظر إلى من هو دونه؛ لأن الكثيرين إنما ينظرون إلى من هم فوقهم، ومن ثم فهو دائماً يشعر أن هناك من هو أكثر منه، إذاً ينبغي أن أنافسه، وأن أسعى وأجد وأجتهد لأصل، هناك ناس أفضل مني، مع أن الواجب أن الإنسان ينظر إلى من هو دونه في الدنيا، وأما في أمور الآخرة فينظر إلى من هو فوقه، ونحن في كثير من الأحيان نعكس القضية.

في أمور الآخرة ننظر إلى من هو دوننا، أنا أحسن من غيري، أنا أصلي في المسجد، أحسن من غيري، وهو بطال من البطالين، لا يرفع رأساً، ليس له همة في عبادة، ولا في قراءة القرآن، ولا في علم ولا عمل، وأحسن من غيري، وفي أمور الدنيا دائماً النظر إلى ما عند الآخرين، فهذا خطأ، هذا الإنسان ما يمكن أن تستقر نفسه وترضى مهما أوتي من الدنيا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس، (8/ 95)، برقم: (6446)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، (2/ 726)، برقم: (1051).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، (4/ 642)، برقم: (2465): من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 633)، برقم: (949).

مواد ذات صلة