الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب القناعة والعفاف أورد المصنف -رحمه الله:
وحكيم بن حزام له مزايا وخصائص انفرد بها عن غيره من أصحاب رسول الله ﷺ، ومن ذلك: أنه الوحيد الذي ولد في جوف الكعبة، ولا يثبت ذلك لغيره، وعاش ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وهذا قد يوجد من وقع له ذلك، وكذلك أيضاً كان جواداً باذلاً لم ينفق نفقة في الجاهلية إلا أنفق مثلها في الإسلام، أخباره في هذا مستفيضة .
يقول: سألت رسول الله ﷺ فأعطاني-يعني سألته مالاً، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، فقد يوضح ذلك ما جاء في بعض الروايات من أن النبي ﷺ أعطى حكيماً دون ما أعطى لغيره من أصحابه، فحكيم كأنه استغرب ذلك، وقال: ما ظننت يا رسول الله أن ينقص عطائي عن أحد من الناس، فأعطاه النبي ﷺ، ثم استزاده فأعطاه، حتى رضي.
فقال له النبي ﷺ: يا حكيم، إن هذا المال خضِرٌ حلو... ومعنى خضر: كأنه شبه المال بالشيء الذي تطلبه النفوس وتميل إليه، فإن الخضرة من الألوان التي تميل إليها النفوس وترتاح إليها وتنجذب، فهذا المال خضِر حلو.
المال لا شك أن النفوس تحبه، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، كما يحب الإنسان في الألوان الشيء الأخضر وفي الطعوم الشيء الحلو، خضر حلو، يعني: يجد فيه الإنسان بغيته من جهة النظر، ومن جهة الطعوم.
فقال: فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه يعني: يأخذ المال من غير استشراف، ولا تقصٍّ، ولا طمع، وإنما يأخذه بسخاوة نفس، بورك له فيه والعبرة بهذا، يعني: الإنسان قد يطلب ويحتال ولربما وضع اسماً لإنسان آخر من أجل أن يحصل إما على هبة، أو منحة، أو لربما من أجل أن يشترك في مساهمة، أو نحو ذلك، فيأخذ اسم هذا، وبطاقة هذا من أجل أشياء أحياناً تافهة تتهافت نفسه عليها، كما نسمع صباح مساء في أسئلة الكثيرين، آخذُ بطاقة هذا، وأستأجر بطاقة هذا، من أجل أني آخذ من هذا قرشين، ومن هذا ثلاثة قروش، ومن هذا أربعة قروش، ولا يعقبهم بعد هذا كله إلا الفقر والخسائر، هذه القروش التي تجمع من هنا وهناك.
فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، وهذه هي العبرة، فإن البركة إذا وجدت ولو في الشيء القليل فإن الله -تبارك وتعالى- ينفع به النفع العظيم، وقد يكون ما يحصله الإنسان هو شيئًا كثيرًا، ولكنه إذا نزعت منه البركة صار لا قيمة له، بل إن الإنسان إذا سئل عنه، أين هو؟ يقول: ذهب، أين ذهب؟، كيف أنفقته؟، كيف فرقته؟ يقول: لا أدري، هو يتعجب من هذا المال الكثير أين ذهب!، ما اشترى شيئًا يراه ذا شأن، أين صرفه؟ لا يعرف، نزع البركة، فهذا الذي يعاني منه كثير من الناس.
قال: ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وهذه قاعدة: من أراد البركة فليأخذ المال بسخاوة نفس من غير استشراف ولا طلب.
قال: وكان كالذي يأكل ولا يشبع ما فائدة الأكل إذاً إذا كان الإنسان يأكل ولا يشبع؟ لا فائدة فيه، وإذا وجدت البركة في الطعام فإنه قد يأكل القليل ويحصل به الكفاية.
يقول: واليد العليا خير من اليد السفلى هذه كلها قواعد أساسية في التعاملات مع المال ومع الناس، البركة هي المعتبر.
طريقنا إلى البركة بأمور، منها: أن يُؤخذ المال بسخاوة نفس، أيضاً القاعدة الأخرى: أن اليد العليا خير من اليد السفلى، بمعنى: أن المعطي أفضل من الآخذ، فاحرص أن تكون أنت المعطي، ولا تكن أنت الآخذ، والإنسان إذا كان يأخذ من الناس ويطلب منهم، يطلب من هذا كذا، ويطلب من هذا كذا، ومن هذا مساعدة، ومن هذا هبة، ومن هذا تبرعًا، ومن هذا صدقة، فالناس يستثقلون هذا جدًّا، يستثقلون من يطلب أموالهم؛ ولهذا ذكرت بالأمس -أو قبل يومين- الأثر الذي ينقل عن علي أنه قال: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره[2].
يأسرك، فاحرص دائماً أن تكون أنت صاحب اليد العليا، خير من اليد السفلى، قال حكيم ، كانت تؤثر فيهم الكلمة ويتلقون هذه التربية من النبي ﷺ بالقبول، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، لا أرزأ يعني: لا أطلب، يعني: أصل ذلك يأتي بمعنى النقصان، بمعنى أني لا أُنقص أحداً من ماله بالطلب منه، أو الأخذ منه، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يعني: أيام خلافته- يدعو حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئاً، مع أن هذا حق له، يعطيه من بيت المال، من الفيء، كما يعطي غيره من الصحابة.
قال: ثم إن عمر دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبله، فقال -يعني: عمر : يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيمٌ أحداً من الناس بعد النبي ﷺ حتى توفي.
وجاء في بعض الروايات أنه أيضاً بقي هكذا في عهد عثمان ، ثم بعد ذلك أيضاً في عهد معاوية، حيث أدرك عشر سنين من خلافة معاوية ، فهذا مع أنه حقه مع ذلك أبى أن يقبله أو أن يأخذه، وليس ذلك من الطلب، لكن كأنه ربما يكون قد خشي أنه إذا قبل وأخذ هذا العطاء، أن نفسه تعود إلى ما كانت عليه من الطلب، وقد قال للنبي ﷺ: لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، والله أعلم.
فأقول: مهما استطاع الإنسان أن يستغني عن الناس فليفعل في كل شيء، مهما استطعت أن تستغني ولا تحتاج للناس فافعل، وهذا لا شك أنه من أعظم الغنى، وأما الافتقار إلى المخلوقين ففيه نوع عبودية لهم، وإنما تكون عبودية الإنسان لله ، ومَن أحسنَ إليك أسَرَك، فلا داعِيَ أن تجعل إسارك بيد المخلوقين، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب تأويل قول الله تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، (4/ 5)، برقم: (2750)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، (2/ 717)، برقم: (1035)، بلفظ: إن هذا المال خضِرةٌ حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى.
- الطبقات الكبرى للشعراني = لوافح الأنوار في طبقات الأخيار (1/ 17).