الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
‏(34) الحديث الثالث " يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي "‏
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 3906
مرات الإستماع: 2744

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: نتحدَّث في هذه الليلة -أيها الأحبة- عن حديثٍ جديدٍ من أحاديث هذا الكتاب، وهو الحديث المشهور الذي يقول اللهُ -تبارك وتعالى- فيه: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً[1].

قوله ﷺ: يقول اللهُ تعالى هذا يُعدُّ من الأحاديث القدسية فيما يُضيفه النبيُّ ﷺ إلى ربِّه -تبارك وتعالى-: يقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربِّه، يقول النبي ﷺ: يقول اللهُ ، كل هذه الصِّيغ تدل على أنَّ هذا الحديثَ من الأحاديث القدسية، والمراد بالأحاديث القدسية أي: ما يُضيفه النبيُّ ﷺ إلى ربِّه؛ أي أنَّ ذلك قاله الله بلفظه ومعناه على الرَّاجح من أقوال أهل العلم؛ لأنَّ الذي يُميز بينه وبين الأحاديث النبوية أنَّ الأحاديث النبوية غير الأحاديث القدسية؛ يكون اللَّفظُ فيها من النبي ﷺ والمضمون، والمعنى يكون من قبيل الوحي من الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

وأمَّا الحديث القدسي فلفظه ومعناه من الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ يقول: قال الله تعالى، يقول اللهُ ، وهذا على ظاهره؛ أي أنَّه من قول الله، والقول إنما يكون لمجموع اللَّفظ والمعنى.

وأمَّا ما يُميزه عن القرآن -الحديث القدسي الذي يُميزه عن القرآن- فهو أنَّ القرآن مُعجزٌ، والأحاديث القدسية ليست بمُعجزةٍ، كما أنَّ الله تكفَّل بحفظ القرآن؛ أي: يحفظ ألفاظه ومعانيه، وأمَّا الأحاديث القدسية فليست كذلك، فيُوجد من الأحاديث القدسية ما لا يصحّ من جهة الثبوت والإسناد.

كما أنَّ القرآن نحن مُتعبَّدون بتلاوته، إذا قرأ الإنسانُ آيةً، إذا قرأ حرفًا؛ فإنَّه كما قال النبيُّ ﷺ: أما إني لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[2].

ثم أيضًا هذه الأحاديث القدسية هي كما أنَّ ألفاظَها من الله -تبارك وتعالى-، لكنَّها لا يُقصد بها التَّحدي، وتجوز روايتها أيضًا بالمعنى.

أمَّا القرآن فلا يجوز أن تُقال الآيةُ بالمعنى، وإنما يجب أن يُؤتى بها كما هي من غير زيادةٍ، ولا نقصانٍ.

هذا الحديث القدسي الذي يقول فيه النبيُّ ﷺ: يقول اللهُ تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، هذا إخبارٌ من النبي ﷺ عن ربِّه -تبارك وتعالى- أنه عند ظنِّ عبده به؛ يعني: أنَّه يكون لعبده بحسب ظنِّه بربه -تبارك وتعالى-؛ أنَّ الله يُعطي العبدَ ويُجازيه بحسب ما يقوم بقلبه من ظنِّه بربِّه، وهذا المعنى جاءت فيه أحاديث عن النبي ﷺ كما سيأتي.

بعض أهل العلم يقول: أنا عند ظنِّ عبدي بي يعني: بالغُفران إذا استغفر، المغفرة له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفايةَ.

وبعضهم يقول: أنا عند ظنِّ عبدي بي يعني: من جهة الرَّجاء وتأميل العفو.

والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ المعنى يشمل ذلك جميعًا، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أنا عند ظنِّ عبدي بي، ولم يُقيد ذلك بحال الاحتضار عند الموت مثلاً، أو في بابٍ من الأبواب، أو في نوعٍ من الأنواع، بل هو -تبارك وتعالى- عند ظنِّ عبده به.

فالذي يدعو الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يُحْسِنَ الظنَّ بربِّه أنَّ الله يُجيب دعاءَ الدَّاعين؛ ولذلك فإنَّ من إساءة الظنِّ بالله أن يدعو الدَّاعي وهو يظنّ، أو لا يدعو وهو يظنّ أو يقوم بقلبه أنَّ الله لا يستجيب له، أو لا يستجيب لدُعاء الناس، فهذا من سُوء الظنِّ بالله : يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي[3]، فهذا من سُوء الظنِّ بالله -تبارك وتعالى-، وهو أيضًا من الاستعجال في الدُّعاء.

كذلك أيضًا مَن ظنَّ أنَّ الله لا يتوب على التَّائبين، وأنَّ الله لا يغفر لهم، ولا يقبل التوبةَ؛ فإنَّ ذلك من سُوء الظنِّ بالله؛ فإنَّه لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يقنط عبدٌ من رحمة الله -تبارك وتعالى- ومن قبول ربِّه لتوبته ، فهذا كلّه من سُوء الظنِّ بالله.

ومن سُوء الظنِّ بالله -تبارك وتعالى- أن يظنَّ العبدُ أنَّ عمله لا يتقبل، أو أنَّ أعمال العباد لا تُقبل، أو أنَّها لا تُرفع، أو أنَّ الله لا يسمع نداء عباده، ولا يسمع سؤال السَّائلين، أو أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُديل الظالمَ على المظلوم إدالةً ثابتةً دائمةً، أو أنَّ الله يُديل الكافرين على المؤمنين إدالةً ثابتةً مُستمرَّةً، أو أنَّ الله لا ينصر أولياءه، ولا يجعل العاقبةَ لهم، إلى غير ذلك من صور سُوء الظنِّ بالله -تبارك وتعالى-، وقد ذكر الحافظُ ابنُ القيم -رحمه الله- طائفةً منها[4].

وهكذا مَن كان يظنّ أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد ظلمه وبخسه حقَّه، ولم يُعطه ما يستحقّ حينما ساق إليه هذه العلّة، أو هذا المرض، أو أنَّ الله -تبارك وتعالى- حرمه كثيرًا من العطاء الدّنيوي من المال، أو من الولد، أو نحو هذا، وأنَّه يُعطي آخرين هم دونه في العبادة، والذكر، والدُّعاء، وما إلى ذلك؛ فهذا كلّه من سُوء الظنِّ بالله .

هؤلاء الذين إذا أصابهم البلاءُ ظنُّوا بأنَّ الله -تبارك وتعالى- ليس بأحكم الحاكمين، وأنَّ هذا البلاء قد وقع في غير موضعه، أو هذا الذي ينظر إلى بلاد الكفَّار وما فيها من الخيرات، والاستقرار، والأمطار الدَّارة، والأرزاق الوافرة، ثم ينظر إلى بلاد المسلمين حيث الحروب، والقحط، والمجاعات، والأوصاب، والمصائب، والقتل، والتَّدمير، من الناس مَن يُسيئ الظنَّ بالله ، هذا كلُّه داخلٌ في هذا المعنى.

بعض الناس إذا سافر إلى بلادهم، ونظر الأمطار، وإلى الأجواء الغائمة، ونظر إلى الأرض الخضراء على مدِّ البصر، ثم تذكر الصَّحراء والحرَّ وما إلى ذلك؛ لربما ساء ظنُّه بربِّه، كيف يُعطى هؤلاء وهم على الكفر، ولا يُعطى ذلك لأهل الإسلام؟! وما عرف الحقيقة، وما عرف حكمة الله ، وما عرف أنَّ هذه الدنيا لا تُساوي عند الله جناح بعوضةٍ، وأنَّ الله يُملي لهم ليزدادوا إثمًا، ثم بعد ذلك يلقونه بالأوزار والعظائم، فيخلدون في النَّار خلودًا لا انقطاعَ له.

فماذا تُساوي هذه الدنيا وما فيها من نبتٍ، وشجيرات، وحشائش، وقطرات من الأمطار، وأجواء فيها من الغيوم؟ كأنها أحلامٌ في مقابل ما ينتظرهم من عذاب الله .

أمَّا أهل الإيمان فيتقلَّبون في البلاء، ثم بعد ذلك يصيرون إلى دار النَّعيم واللَّذات، دار المقامة عند الله -تبارك وتعالى.

وهكذا هؤلاء الكفَّار حينما يُسيئون الظنَّ بالله، وأنَّ الله لم يقسم الثَّروات التي على وجه الأرض قسمةً عادلةً، فصارت عند قومٍ لا صناعةَ لهم، ولا بصرَ، ولا معرفةَ، وأمَّا الدول الصناعية -الدول المنتجة- فإنَّها محرومة من هذه الثَّروات الطَّبيعية -كما يُسمُّونها- كالنِّفط وغيره، فيقولون: نحن. كما قال أحدُهم -قبَّحه الله- يقول: سنُصحح الخطأ الإلهي. نسأل الله العافية.

فهؤلاء كلّهم من الظَّانين بالله ظنَّ السَّوء.

كذلك مَن ظنَّ أنَّ الطيب، أنَّ الخيرَ، أنَّ الصَّالح لا يُوفَّق، أو أنَّ المرأة الصَّالحة الطَّيبة الخيرة لا تُوفق، فهي لا تتزوج، أو لا تكاد، أو إذا تزوَّجت طُلِّقت، أو نحو هذا، هذا غلطٌ، وهو من سُوء الظنِّ بالله ، كيف يظنّ بالفاسقة والفاجرة وما إلى ذلك أنها تُوفَّق، وبالصَّالحة أنها ليست كذلك؟! هذا غير صحيحٍ، فالله -تبارك وتعالى- يحوط أولياءه برعايته وحفظه، ويُحسن العاقبةَ لهم، ويجعل عواقبَهم إلى خيرٍ.

إذًا إحسانُ الظنِّ بالله -تبارك وتعالى- يشمل هذه الأمور جميعًا، فإذا استغفر وتاب فإنَّ الله يغفر له، ويقبل توبتَه، إذا دعاه أجابه، لكن لا يشترط أن تُعجّل هذه الإجابة؛ فإنَّه يكون له إحدى ثلاث: إمَّا أن تُعجّل، وإمَّا أن يدفع عنه من البلاء مثل ذلك، أو أن يدَّخر له في الآخرة، فإذا لم يرَ الإنسانُ نتيجةَ الدُّعاء فليس معنى ذلك أنَّه رُدَّ إطلاقًا؛ يدفع عنه من الشُّرور والبلاء ما لا يُقادر قدره.

والإنسان لا يعرف -أيها الأحبة- هذه الحقيقة حتى يرى في نفسه، أو يرى في ولده، أو نحو ذلك بعضَ ما يكرهه، ثم يعلم بعد ذلك أنَّه كان يرفل في أثواب العافية، وأنَّه قد دُفِعَ عنه شرٌّ كثيرٌ، أو إذا زار المستشفيات ورأى أحوالَ المبتلين والمرضى، وما إلى ذلك، ثم نظر إلى حاله ورأى أنَّ الله قد دفع عنه شرًّا كثيرًا، وهذا الدَّفع يكون بسبب الدُّعاء، يدفع عنه من البلاء بمثل ذلك، أو يدَّخر له في الآخرة، وهذا خيرٌ له.

والمرأة السَّوداء التي طلبت من النبي ﷺ أن يدعو لها، لما كان يُصيبها من الصَّرع، فخيَّرها النبيُّ ﷺ بأن يدعو لها وتبرأ، أو أنها تصبر ولها الجنَّة، فاختارت الصَّبر والجنة، ولا شكَّ أنَّ هذا أعظم بكثيرٍ من برءٍ قصيرٍ محدود الأمد.

يعني: تصور لو أنَّ هذه المرأة طلبت في ذلك الحين أن تُعافى، انقضت حياتها كأنَّها أحلام، لكنَّها فوتت على نفسها هذه المزية أو العِدة بالجنة، بمعنى أنَّ ذلك يكون من قبيل الوعد الثابت المتحقق، فهذا خيرٌ لها، ولا مُقارنة، وخيرٌ هنا ليس المرادُ بها أفعل التَّفضيل، لكن الإنسانَ يستعجل.

فالمقصود -أيها الأحبة- أنَّ العبدَ يُحسن الظنَّ بربه في حياته الدنيا، وهو يتقلَّب فيها، فإذا دعوتَ أحسن الظنَّ، إذا أصابك الضرُّ فليس معنى ذلك أنَّه نهاية المطاف، وأنَّه نهاية الطريق، إذا وقع لك ابتلاءٌ لا تظنّ أنَّ الدنيا قد أغلقت، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- لن يُخلصك، ولن يُنجيك، لا، أبدًا، وإنما ذلك لن يطول، كل ذلك سيزول، ويبقى ذكريات، ولكن العبدَ يستعجل؛ فإذا أصابه الضرُّ يجزع، كما قال الله -تبارك وتعالى- في ذكر طبيعة الإنسان: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، ثم ذكر بقية الأوصاف.

فهذه النفس التي هُذبت بطاعة الله وبالإيمان يخفّ ذلك فيها، وقد يتلاشى هذا الوصف: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعً ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، وإلا تبقى النفسُ بهذه المعاني وهذه الأوصاف حاضرة فيها، فالناس يتفاوتون فيها بحسب إيمانهم، وبحسب ما تعذَّبت به أرواحهم، وهذا أمرٌ معلومٌ مُشاهَدٌ.

إذًا مَن تاب فيحسن الظنَّ، لا يقول: أنا ذنوبي أكثر، أنا ذنوبي أعظم، لا يمكن أن تُغفر، أو أن يتألَّى أحدٌ على ربِّه -تبارك وتعالى- فيقول: الله لن يُوفِّق فلانًا، الله لن يقبل من فلانٍ، الله لن يهدي فلانًا. مَن الذي يتألَّى على الله ؟!

هؤلاء طائفة من كبار الكفَّار المعاندين المحاربين لله منذ زمن النبي ﷺ إلى يومنا هذا، يهدي الله منهم مَن شاء، والله يقول: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، فهدى اللهُ أبا سفيان بعد أن كان هو الذي يقود الحملات من جيوش المشركين لحرب المسلمين، صار أول مَن جاهد، وقاتل أهل الردّة، فصار من أهل الإيمان، ونترضى عنه ، وولده معاوية خليفة المسلمين، وهو أول ملوك المسلمين، وفتح الله على يده بلادًا كثيرةً، فهذا كلّه ينبغي مُراعاته، وهو في غاية الأهمية.

والنبي ﷺ يروي عن ربِّه -تبارك وتعالى- أنَّه قال. هذا حديثٌ قدسيٌّ آخر، من حديث أنسٍ فيما يرويه النبيُّ ﷺ عن ربِّه : يا ابن آدم، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك ما كان فيك ولا أُبالي.

لاحظ: دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي يعني: مهما كانت هذه العظائم والذُّنوب التي قارفها العبدُ، فإذا دعا الله وتاب واستغفر ورجا الله -تبارك وتعالى- غفر له ولا يُبالي.

يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا؛ لأتيتُك بقرابها مغفرةً[5]، فهذا من سعة رحمته -تبارك وتعالى-، ورحمته وسعت كل شيءٍ.

كذلك أيضًا في الحديث الآخر، حديث أنسٍ : أنَّ النبي ﷺ دخل على شابٍّ وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله -يعني: يرجو رحمته وعفوه ومغفرته- وإني أخاف ذنوبي. فجمع بين الخوف والرَّجاء، فقال رسولُ الله ﷺ: لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه اللهُ ما يرجو، وأمَّنه مما يخاف[6].

هنا جمع بين الخوف والرَّجاء، وأخذ بهذا طائفةٌ من أهل العلم ممن قالوا بأنَّه يجب الجمعُ بين الخوف والرَّجاء، فهما كالجناحين للطَّائر، لا يطير إلا بهما، وذلك في حالة الحياة، وعند الموافاة، احتجُّوا بمثل هذا الحديث.

وعلى كل حالٍ، المسألة فيها كلامٌ معروفٌ، وتكلَّمنا على هذا في الكلام على الأعمال القلبية عند الحديث عن الرجاء والخوف، وهكذا أيضًا في الحديث الآخر: حديث أبي هريرة ، وهو هذا الحديث الذي نتكلم على معانيه، وحديث جابرٍ : أنَّه سمع النبيَّ ﷺ قبل موته بثلاثة أيامٍ يقول: لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِن الظنَّ بالله -عزَّ وجلَّ-[7]، وهذا أخذ منه بعضُ أهل العلم: أنَّ إحسانَ الظنِّ ينبغي أن يترجّح؛ يعني: جانب الرَّجاء عند الموت.

وبعضهم يقول: يغلب جانب الخوف في حال الصحّة، ويغلب جانب الرَّجاء عند الموت؛ لأنَّه في حال الصحّة يحتاج إلى ردعٍ وزجرٍ، ويغلب جانب الخوف حتى يصل إلى مأمنٍ.

وبعضهم يقول: يستوي الخوف والرَّجاء عنده، وعند الموت يغلب جانب الرَّجاء؛ لهذا الحديث: لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظنَّ بالله ، وهذا لا يُنافي أن يجمع بين الخوف والرجاء، لكنه يُحسن ظنّه بربِّه -تبارك وتعالى.

وكذلك أيضًا ما جاء عن حيّان أبي النَّضر قال: خرجتُ عائدًا ليزيد بن الأسود -يعني: النَّخعي- فلقيتُ واثلة بن الأسقع وهو يُريد عيادته، فدخلنا عليه، فلمَّا رأى واثلة -يعني: رأى صاحب النبي ﷺ. ويزيد من كبار التَّابعين، ومن خيارهم -رحمه الله تعالى-، يقول: فدخلنا عليه، فلمَّا أقبل عليه واثلةُ حتى جلس، فأخذ يزيدُ بن الأسود بكفي واثلة فجعلها على وجهه، فقال له واثلةُ: كيف ظنُّك بالله؟ هو الآن في حال النَّزع، في حال الموت، في حال الاحتضار: كيف ظنُّك بالله؟ قال: ظني بالله والله حسنٌ. قال: فأبشر؛ فإني سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: قال الله : أنا عند ظنِّ عبدي بي، إن ظنَّ خيرًا فله، وإن ظنَّ شرًّا فله[8].

هذا حديثٌ ظاهرٌ في هذا المعنى: إن ظنَّ خيرًا فله، وإن ظنَّ شرًّا فله، لكن لا يختصّ حديث الباب الذي نتحدَّث عنه، لا يختصّ بحال الموت والاحتضار ومُفارقة الدنيا، وإنما يكون في جميع الأحوال؛ يعني: بمعنى أنَّ الإنسان في حال العافية، وفي حال أيضًا المرض والموت ومُفارقة الحياة الدنيا.

أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالسَّعادة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم: كتاب التوحيد، باب الحثِّ على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
  2. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألبانيُّ في "مشكاة المصابيح"، برقم (2137).
  3. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب يُستجاب للعبد ما لم يعجل، برقم (6340)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب بيان أنه يُستجاب للدَّاعي ما لم يعجل فيقول: دعوتُ فلم يُستجَبْ لي، برقم (2735).
  4. انظر: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدَّواء الشَّافي" أو "الدَّاء والدَّواء" لابن القيم (ص138).
  5. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، بابٌ في فضل التَّوبة والاستغفار وما ذُكِرَ من رحمة الله بعباده، برقم (3540)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (4334).
  6. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الجنائز، برقم (983)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (1612).
  7. أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحُسن الظنِّ بالله تعالى عند الموت، برقم (2877).
  8. أخرجه ابنُ حبان في "صحيحه": كتاب الرَّقائق، باب حُسن الظنِّ بالله تعالى، برقم (639)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (638).

مواد ذات صلة