الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زلنا نسوق جملة من النماذج من أحوال السلف في تعففهم وقناعاتهم وتقللهم من الدنيا.
يقول عبد الرزاق الصنعاني وذكر الإمام أحمد فدمعت عيناه..، هذا عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف، الإمام المعروف، قدم إليه الإمام أحمد -رحمه الله- إلى اليمن، ذكر الإمام أحمد فدمعت عيناه فقال: بلغني أن نفقته نفدت، فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب، وما معنا أحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير، فخذها، وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء.
فقال لي: يا أبا بكر، لو قبلتُ من أحد شيئًا قبلت منك[1].
الإمام أحمد نفدت نفقته وهو في طريقه إلى اليمن، حتى إنه أكرى نفسه من الجمّال الذي كان ينقل الناس بأجرة، فنفدت نفقته فأكرى نفسه[2]، أجّر نفسه، بمعنى أنه يخدم ويعلف الدواب الإبل ونحو ذلك يضع عنها الأحمال بأجرة وهو إمام الدنيا.
ويقول صالح بن أحمد بن حنبل: دخلت على أبي يوماً في أيام الواثق، والله يعلم على أي حال نحن، يعني: من الحاجة والشدة والفقر، وقد خرج لصلاة العصر، وكان له لِبد يجلس عليه، قد أتى عليه سنون كثيرة حتى بلي، وإذا تحته كتاب -يعني رسالة، وفيه: بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدين وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يد فلان، وما هي من صدقة، ولا زكاة، وإنما هو شيء ورثته من أبي، وكانوا يرون أن الميراث من أطيب المكاسب؛ لأنه لا تبعة على الإنسان فيه، يقول: فقرأت الكتاب -هذا صالح يقول: قرأت الكتاب وهو ابن الإمام أحمد- ووضعته في مكانه، فلما دخل قلت: يا أبتِ ما هذا الكتاب؟، فاحمر وجهه، وقال: رفعتُه منك، يعني: وضعه تحت هذا لئلا يراه صالح، ثم قال: تذهب لجوابه؟، فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إليّ ونحن في عافية، فأما الدين فإنه لرجل لا يُرهقنا، يعني: لا يطالبنا بإلحاح، وأما عيالنا ففي نعمة الله، فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل مثل ذلك، يعني: أرسل مرة ثانية، فرُد عليه بمثل ما رد، فلما مضت سنة أو نحوها ذكرناها، يقول: جلسنا نتذكر يوم أرسل الرجل الكتاب، فقال الإمام أحمد: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت[3]، يقول: انظروا صبرنا وتعففنا ومشت الأمور، ولو قبلناها كان ما عندنا منها شيء الآن.
ويقول أحمد بن سنان: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن، وأكرى نفسه من جمّالين عند خروجه، وعرضعليه عبد الرزاق دراهم صالحة فلم يقبلها.
وبعث ابن طاهر حين مات أحمد بأكفان وحنوط -وابن طاهر هذا بمثابة الوزير عند الخليفة، فأبى صالح أن يقبله، وقال: إنّ أبي قد أعد كفنه وحنوطه ورده، فراجعه، قال: لابد أن تأخذها، فقال صالح: إن أمير المؤمنين أعفى أبا عبد الله مما يكره، وهذا مما يكره، فلست أقبله[4].
وجاء عن صالح أيضاً قال: قلت لأبي: إن أحمد الدورقي أُعطي ألف دينار، فقال: يا بني، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طـه:131]، يعني: يذكر له يقول: فلان من أصحابك، فلان من الناس الذين هم من أهل الزهادة والعبادة والعلم، فلان جاءه كذا، وفلان يعني أعطاه الخليفة، فقال: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[5].
وعن أبي إسماعيل الترمذي قال: جاء رجل بعشرة آلاف من ربح تجارته إلى أحمد فردها[6]، وقيل: إن صيرفيًّا بذل لأحمد خمسمائة دينار -وهذا شيء كثير جدًّا- فلم يقبل، يقول صالح: قلت لأبي بلغني أن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار، فقال: يا بني، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وذكرت له ابن أبي شيبة وعبد الأعلى النرسي ومن قُدم به إلى العسكر من المحدّثين، وهؤلاء أئمة، فقال: إنما كان أياماً قلائل، ثم تلاحقوا وما تحلوا منها بكبير شيء[7].
يعني: ماتوا، الواحد بعد الثاني، وما استفادوا من هذه الأعطيات والأموال التي دفعت إليهم، وهذا الذي جعله -رحمه الله- بهذه المثابة إمام الدنيا، ولا زال الناس لا يذكرون أحمد -رحمه الله- إلا بالإمامة، الإمام أحمد لا تكاد تسمع من يقول: أحمد بن حنبل، وإنما الإمام أحمد، فإنما يكون الإنسان كبيراً إذا كان تعلقه بالله وحده لا شريك له، وتطلعه إلى ما في يده مع استغنائه عما في أيدي الناس.
وقد ذكرنا مراراً: "استغنِ عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره".
فنسأل الله أن يغنينا وإياكم عن خلقه أجمعين، وأن يرزقنا وإياكم العفاف والغنى، وأن يعيننا جميعاً على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- طبقات الحنابلة (1/ 209).
- سير أعلام النبلاء (11/ 214).
- سيرة الإمام أحمد بن حنبل (ص: 44).
- سير أعلام النبلاء (11/ 206).
- الجرح والتعديل (1/ 302).
- سير أعلام النبلاء (11/ 212).
- المصدر السابق (11/ 324).