الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الأخير الذي نورد فيه ما جاء من أخبار السلف بصفة عيشهم، وقناعتهم في الدنيا ومظاهرها، وكمال عفتهم.
كما قال ابن جرير -رحمه الله:
إذا أعسرتُ لم يعلم رفيقي | وأستغني فيستغني صديقي |
حيائي حافظٌ لي ماءَ وجهي | ورِفقي في مطالبتي رفيقي |
ولو أني سمحتُ بماء وجهى | لكنتُ إلى العلا سهلَ الطريق[1] |
يقول بُنَان الحمّال: "الحُرُّ عبدٌ ما طمع، والعبدُ حرٌّ ما قنع"[2].
وهذه من الحكم الصحيحة، وكثيرًا ما يذكرها أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وتلميذه ابن القيم، وحري بالإنسان أن يحفظها فهي لبُنَان الحمّال، "الحُرُّ عبدٌ ما طمع، والعبدُ حرٌّ ما قنع".
فإذا كان الإنسان يُتبع نفسه هواها، وقد ركبها الطمع، وصار يَتبع مطامعه، فإنه يريق ماء وجهه، ويذل للآخرين، ويدخل مداخل السوء والريب، ويصدر منه ما لا يليق ولا يجمل، وإذا صار الإنسان قنوعًا فإنه يكون حرًّا ولو كان عبدًا مملوكًا؛ ولذلك إذا اكتفى الإنسان بما في يده، ولم يتطلع إلى ما وراء ذلك فإنه يرتاح قلبه ويطمئن، ولو علق قلبه بأدنى شيء فإنه يبدأ يشتغل به حتى يسيطر على فكره، وجرِّبْ هذا: الذي يقنع بما عنده من مركوب -سيارة مثلًا- خالي الذهن، ولكن جرِّبْ لو أنه أشغل نفسه بالبحث عن سيارة أخرى، أفضل من هذه، يبدأ يفتش هنا وهناك، وينشغل حتى في الليالي الشريفة في العشر الأواخر من رمضان، ليس له شغل إلا تصفح مجالات السيارات، وكتالوجات الوكالات، وينظر هنا وهناك، ويذهب إلى معارض السيارات، وينشغل بهذا انشغالا كبيرًا، فكيف لو كان هذا عن طريق غيره أن يعطيه أو يهبه أو يمنحه؟.
وكان أبو إسحاق الشيرازي -وهو الإمام المعروف من أجلّ علماء الشافعية- لا يملك شيئًا، بلغ به الفقر أنه كان لا يجد قوتًا، ولا ملبسًا.
يقول أبو العباس الجرجاني القاضي: كنا نأتيه وهو ساكن في القطيعة، فيقوم لنا نصف قومة، ما ينتصب قائمًا، يقوم نصف قومة ليسلم عليهم، لماذا؟ يقول: كي لا يظهر منه شيء من العُريِّ؛ لأن ما عنده شيء إلا قصير فيجلس ويستتر به.
يقول: وكنت أمشي معه فتعلق به باقلّاني، وقال: يا شيخ، كسرتني، وأفقرتني، فقلنا: وكم لك عنده؟ قال: حبتان من ذهب، أو حبتان ونصف[3].
يعني: هذا يشتغل عنده، لكن ما عنده ما يعطيه.
اقطع الآمالَ عن فض | بني آدم طُرًّا |
أنت ما استغنيتَ عن مثلك | أعلى الناس قدرًا[4] |
وكما قلنا فيما ذكره شيخ الإسلام عن بعضهم: "استغنِ عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتجْ إلى من شئت تكن أسيره"[5].
وهذا ابن هُبيرة يقول: "جلست مع الإمام محمد بن يحيى الزَّبيدي من بكرة -يعني: من البكور من أول النهار إلى قريب من الظهر، وهو يلوك شيئًا فسألته، فقال: نواة أتعلل بها لم أجد شيئًا"[6]. يعني: نواة تمر يعلكها من الفجر إلى الظهر.
نحن لا نورد إلى القليل مما يذكر في أخبارهم وصفاتهم، وأترك أشياء لربما يظن بعض الناس أنها من قبيل المبالغات، وإلا فكان بعضهم على سبيل المثال يلبس ثيابًا حسنة، وإذا رآه الناس ظنوا أنه من الأغنياء، ويحمل معه مفتاحًا، كأنه يملك دارًا، وإذا صلى وضعه بين يديه.
يتعفف عن الناس لا يريد أن يطلع أحد على فقره وحاجته، وهو لا يملك شيئًا، وينام في المسجد، ومع ذلك كان يُظهر لهم هذه الأشياء.
من هذه النماذج ما ذكره أيضًا ابن شوذب قال: اجتمع مالك بن دينار، ومحمد بن واسع، فتذاكروا العيش، فقال مالك: ما شيء أفضل من أن يكون للرجل غلة يعيش منها، يعني: عنده شيء، عنده مزرعة، عنده دكان.
فقال محمد بن واسع: طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء، وهو عن الله راض، والله عنه راض"[7].
إذا أظمأتْك أكفُّ اللئام | كفتك القناعةُ شبعًا ورِيا |
فكن رجلًا رِجله في الثرى | وهامةُ همته في الثُّريا |
أبيًّا لنائلِ ذي ثروة | تراه بما في يديه أبيا |
فإنّ إراقة ماء الحياة | دون إراقة ماء المُحيَّا[8] |
يقول سعيد بن المسيب -رحمه الله: "طوبى لمن كان عيشه كفافًا، وقوله سدادًا"[9].
وفي أخبار السلطان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- لما توفي لم يُخلِّف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا، ودينارًا صوريًا، ولم يُخلِّف ملكًا ولا عقارًا -رحمه الله.
يقول الموفق بن قدامة وكان معه في فتح بيت المقدس كان على الميمنة صاحب المغني يقول: وُجد في خزانته بعد موته دينار وثلاثون درهمًا، وكان إذا نازل بلدًا وأشرف على أخذه -كاد أن يسيطر على البلد وينتصر، ثم طلبوا منه الأمان آمنهم؛ فيتألم لذلك جيشه لفوات حظهم[10].
لأنه لو أخذها بالقوة صارت غنائم، ولكنه يقبل منهم ويؤمِّنهم، فتكون أملاكهم تحت أيديهم فلا يأخذ شيئًا.
ويقول ابن الجوزي -رحمه الله: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه"[11].
أخبارهم في هذا كثيرة، لعل هذا يكفي، وينبغي أن يكون هذا دافعًا إلى القناعة، وأن يتذكر الإنسان أن قيمة الإنسان ليست بكثرة المال الذي في يده، وأن الحرمان لا يعني بخس منزلة العبد عند الله ، فالنبي ﷺ وهو إمام المتقين ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ويمر الهلال، والهلال والهلال ولا يوقد في بيته ﷺ نار، ويخرج من بيته لا يخرجه إلا الجوع، ويربط على بطنه الحصى وما ضره، ولم يكن ذلك نقصًا في مرتبته.
الإنسان يعرف هذه المعاني، ويتذكرها، وليس معنى ذلك أن يقال للناس: اتركوا عمارة الدنيا، وعيشوا فقراء، لا، لكن القلب يطمئن فقط، إن حصل شيء في اليد لا يلمس القلب، هذا هو المطلوب، القلب هذا لا تدخله الدنيا، تكون باليد فيخرج الإنسان حق الله، وحقوق العباد، ولا يظلم أحدًا، وينفق على من يجب عليه النفقة عليهم، ويعلم أن هذه الدنيا عارية في يده، وأن الله استخلفه كما استخلف الذين من قبله فيها، ثم يسلب ويخرج إلى المقبرة بثياب من البلدية، يعني: لن يدفع حتى قيمة الكفن، وقيمة الكفن لا تكلف شيئًا، وكل شيء جاهز هناك الحنوط مجانًا، والماء مجانًا، والذي يغسل، وكل التجهيز مجانًا، ما يحتاج الإنسان أن يتهافت ويحزن على شيء.
ثم إن الله عليم خبير، يعلم حال العبد، ويعلم دبيب الذر، ويعلم أين هو، وتحركاته، وحركاته يعلم أين هو، ما نسيه، ولكن الله يقسم الأرزاق بعلم وحكمة، فقد يفطم العبد من الدنيا لمكانته عنده؛ لأن الله يحبه فلا يريد أن يدخل عليه أمرًا يلهيه، فيفطم عن الدنيا، فكلما دخل مشروعًا ما نجح، كلما سلك طريقًا يمكن أن يتوصل به إلى الغنى ما نجح، فيبقى على حال، وهكذا تجد آخرين لربما حصّلوا الشيء الكثير في وقت يسير، لكنه ذهب من هنا فبقوا في ديون، كل شيء مقدر، كل شيء محسوب، ربح أناس بالأسهم في شهور أشياء كثيرة جدًّا وطمعوا، وصاروا أسرى للبنوك، وأخذوا أموالًا من البنوك، ثم بعد ذلك ذهبت الأرباح والبنوك أخذت ما لها، وبقيت تطالبهم، هذا تطالبه بخمسمائة ألف، وهذا تطالبه بثلاثمائة ألف، وهذا تطالبه بمائتي ألف، قبل ذلك ما كان عليه ديون.
"الحُرُّ عبدٌ ما طمع، والعبدُ حرٌّ ما قنع" فما الذي أوقعهم بهذه الأسهم؟، راتبه عشرة آلاف، البنك يأخذ منه، وهذا السيارات بالأقساط تأخذ منه، وباع بيته، وبقي بدون بيت، وصار مستأجرًا، كل هذا بسبب الطمع، فصار أسيرًا لهذه الديون، صار الدخل الشهري ألفين وأربعمائة، أو ألفين وخمسمائة، أو ثلاثة آلاف، ولو قيل له: يا أبا فلان، ما رأيك نوظفك بوظيفة بألفين وخمسمائة ريال؟، سيقول: أنا أشتغل بأقل من خمسة عشر ألفًا، أو بأقل من عشرين ألفًا!.
الواقع أنه مع هذه الديون التي تتنازعه عشر سنوات قادمة إذا ما جاءت ديون ثانية الواقع أنه يشتغل بألفين وخمسمائة ريال، لكن يرضى الإنسان أحيانًا أن يكتب له في الدفتر المسجل قدر الراتب سبعة عشر ألفًا، وهي في الواقع أربعة، لكننا لا نفكر في كثير من الأشياء التي حولنا.
أسأل الله أن يغنينا وإياكم بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يقضي الدين عن المدينين، وأن يرحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (14/ 276).
- المصدر السابق (14/ 489).
- المصدر السابق (18/ 459).
- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (4/ 378).
- مجموع الفتاوى (1/ 39).
- سير أعلام النبلاء (20/ 317).
- المصدر السابق(6/ 120).
- المصدر السابق (17/ 447).
- المصدر السابق (17/ 463).
- المصدر السابق (21/ 289).
- المصدر السابق (21/ 372).