الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف في باب "الحث على الأكل من عمل يديه والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء" ما جاء عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه كان يُعالج بيديه ويعمل[1]، وهكذا عطاء بن أبي رباح وهو من أئمة التابعين وكبارهم كان يعمل المكاتل، وهكذا أيضاً دخل جابر بن زيد على مالك بن دينار وهو يكتب فقال: يا مالك، ما لك عمل إلا هذا؟ تنقل كتاب الله؟، هذا والله الكسب الحلال، بمعنى أنه كان ينسخ للناس المصاحف بأجرة ويأكل من عمل يده، وهو عالم إمام كبير مالك بن دينار، وهكذا أيضاً جاء عنه أنه كان ينسخ المصحف في أربعة أشهر فيدع أجرته عند البقال فيأكلها[2]، هذا الذي يتقاضاه من نسخ المصاحف يضعه عند البقال ثم يأخذ منه ما يحتاج إليه حتى ينتهي، وهكذا ينسخ مصحفاً بعد ذلك ويستغني بذلك عن الناس.
وكان الأعمش لربما خرج إلى أصحابه وعلى كتفه مئزر العجين[3].
وكان عتبة بن أبان يقول: لا يعجبني الرجل إلا أن يحترف[4]، يعني: يكون له حرفة، لا يكون عالة على الناس، وأيضاً قال شعيب بن أبي حمزة لبقية بن مخلد: يا أبا محمد، قد مَجِلتْ يدي من العمل، معنى مَجِلتْ أي إذا مارس الإنسان بعض الأعمال الشاقة كالمِعول ونحو ذلك تتنفط، بمعنى أنه يكون فيها انتفاخات في داخلها الماء، قد مَجِلتْ يدي من العمل، قال أبو زرعة: قلت لعلي: ما كان يعمل؟ قال: كانت له أرض يعالجها بيده، لربما لم يكن له خادم فكان بيديه يعمل وهو إمام كبير، وهكذا أيضاً كان لشعبة بن الحجاج أخوان بشار وحماد وكانا يعالجان الصرف، وكان شعبة يقول لأصحاب الحديث: ويلكم، الزموا السوق فإنما أنا عِيال على أخوي، وقال: ما أكل شعبة من كسبه درهماً قط[5]، مع أنه لا يسأل الناس، وذهب سفيان الثوري إلى خرسان في حق له فأجّر نفسه من جمّالين[6]، سفيان الثوري إمام الدنيا في زمانه يؤجر نفسه من جمالين، والجمال معروف هو الذي يمتهن مهنة معروفة وهي ما يقال له: الجِمالة، يكون عنده مجموعة من الجمال ينقل عليها المسافرين وينقل عليها المتاع من بلد إلى بلد يقال له: جمال، ومثل هؤلاء غالباً -أعني الجمالين- لا يكونون من أهل العلم وما شابه فيأتي مثل سفيان الثوري ويُكري نفسه لهم من أجل أن يأكل من عمل يده، فالعمل ليس بعيب.
وجاء عن إبراهيم بن أدهم أنه حصد ليلة ما يحصده عشرة فأخذ أجرته ديناراً[7].
ويقول العُمري عند موته: بنعمة ربي أُحدث، لو أن الدنيا تحت قدمي ما يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي ما أزلتها، معي سبعة دراهم من لحاء شجر فتلته بيدي[8]، يعني: لحاء شجر فتله بيده فصنع منه شيئاً كالحبال ونحو ذلك فباعه فصار عنده سبعة دراهم فاستغنى بها، وأعف بها نفسه وقنع، وكان الحافظ أبو نُعيم الفضل بن عمرو التيمي شريكاً لعبد السلام بن حرب المُلائي كانا في حانوت بالكوفة يبيعان، وكان كذلك غالب عُلماء السلف إنما ينفقون من كسبهم كما يقول الذهبي -رحمه الله تعالى، ودخل الطفاوي على فتح الموصلي وهو يُوقد في الآجُر وكان شريفاً من العرب زاهداً يُوقد في الآجر، والنماذج كثيرة وسأترك بعضها في ليلة أو ليلتين قادمتين.
وأسأل الله أن يغنينا وإياكم من فضله، وأن يرزقنا وإياكم العفاف والقناعة والرضا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (4/ 459).
- المصدر السابق (5/ 364).
- المصدر السابق (6/ 356).
- المصدر السابق (6/ 511).
- المصدر السابق (6/ 606).
- المصدر السابق (6/ 640).
- المصدر السابق (7/ 74).
- المصدر السابق (7/ 362).