بعد ذلك -أيها الأحبة- نتحدَّث عمَّا بقي من هذا الحديث:
هذا الحديث القدسي: يقول النبيُّ ﷺ فيما يرويه عن ربِّه في آخر هذا الحديث: وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً، بعدما قال: وإن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا[1]، وقد مضى الكلامُ على هذا الجزء من الحديث.
فقوله -تبارك وتعالى-: وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً، هذا بظاهره فيه إثبات هذه الصِّفة لله -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، مع تنزيهه عن مماثلة المخلوقين.
وقد جاء في فتوى اللجنة الدَّائمة إثبات هذه الصِّفة على ما جاء في هذا الحديث، على ما يليق بالربِّ المعبود ، وقد وقَّع على هذه الفتيا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، والشيخ عبدالله بن غديان، والشيخ عبدالله بن قعود -رحمهم الله[2].
وجاء أيضًا في فتاوى فضيلة الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله- إثبات هذه الصِّفة؛ بناءً على هذا الحديث، وأنها من الصِّفات الفعلية، وأنَّه يجب الإيمانُ بها من غير تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، ولا تعطيلٍ؛ لأنَّ الله أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، فالواجب القبول والإيمان والتَّسليم[3].
كما أنَّ ذلك أيضًا يدل بلازمه؛ يعني: هذه الصِّفة تدل بلازمها، هذا الذي ذكره في هذا الحديث يدل بلازمه، وما قبله أيضًا من قوله: مَن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومَن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، كل ذلك يدل أيضًا بلازمه، فإنَّ الدلالة أنواع: مُطابقة، وتضمّن، والتزام.
فمن دلالة اللُّزوم: سرعة إقبال الله -تبارك وتعالى- على عبده الذي أقبل عليه، أقبل على ربِّه، وأناب إليه، وتوجَّه إلى معبوده بقلبه وجوارحه، وأنَّ مُجازاة الله -تبارك وتعالى- للعاملين بطاعته أكمل من أعمالهم، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- شكورٌ، كريمٌ، يُجازيهم بالحسنة عشرًا، إلى سبعمئة ضعف.
فهذا كلّه يُؤخَذ من هذا الحديث القدسي الذي يدل على كرم أكرم الأكرمين، وأرحم الرَّاحمين.
فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرحمنا وإيَّاكم برحمته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
اللهم اجعل القرآنَ ربيعَ قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
اللهم اجمع كلمةَ المسلمين على الحقِّ، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، وابعد عنهم شرارَهم، اللهم أطعم جائعَهم، وأمِّن خائفَهم، واكسُ عاريهم، اللهم داوِ جراحهم، واشفِ مرضاهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب الحثِّ على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
- انظر: اللَّجنة الدَّائمة (3/ 196).
- انظر: "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين" (1/ 182).