الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الكرم والجود" أورد المصنف -رحمه الله-:
من تصدق بعَدل تمرة، بعدل تمرة يعني بقيمة تمرة.
وقوله هنا: بعَدل تمرة، من أهل العلم من يقول: إن العَدل هو ما يكون مقابلاً للشيء أو نظيراً له من غير جنسه، وما كان بالكسر "بعِدل"، فإنه يكون مما قابله أو ماثله من جنسه، ولهذا يقال: عِدل البعير أو الدابة فيوضع -كما هو معلوم- على جانبي الدابة يوضع حملان فيقال: هذا عِدل، يعني: له ما يقابله مما يحمل عليها، ويقال: هذا عِدل هذا بمعنى أنه نظير له من جنسه، وبالفتح يقال: عَدل بمعنى ما يُعادل إذا كان من غير جنسه من القيمة ونحو ذلك.
ومن أهل العلم من لا يفرق بين هذا وهذا، وهذا قال به بعض أهل اللغة، قالوا: لا فرق بين العِدل والعَدل كلاهما بمعنى واحد، وهنا من تصدق بعَدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، وهذه الجملة توضح معنى قد استقر في الشرع وهو أن الله -تبارك وتعالى- طيب لا يقبل إلا طيباً كما ثبت ذلك في الحديث الآخر، والكسب الطيب هو الذي يكون مصدره صحيحاً، ويكون أيضاً هو في نفسه صالحاً ليس بمحرم في نفسه، يعني: الخمر، الخنزير هي في عينها محرمة، وليست بطيبة بل هي أعيان نجسة، وقد يكون هذا الوصف مفارقاً له بسبب طريقة الاكتساب مثل الغش، والتدليس، والربا، ما كان من طريق الربا أو نحو ذلك من المكاسب المحرمة كالقمار ونحوه فمثل هذا ليس من الكسب الطيب، فالله -تبارك وتعالى- لا يقبل ذلك.
قال: فإن الله يقبلها بيمينه، فيه إثبات صفة اليد لله وإثبات صفة اليمين، وقد دل على هذا نصوص من الكتاب والسنة، والله يقول: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وذلك على ما يليق بجلال الله وعظمته، كما أن أيضاً ذكر اليمين يعني معنى خاصاً، وهو القوة وأيضاً الاعتناء بهذا الشيء.
قال: فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل (الفَلُوّ) هو الفطيم من الدابة، وجاء في رواية: مُهره[2]وهو ولد الفرس فإن العرب يعتنون به غاية الاعتناء بل ربما أولوه من الرعاية والعناية أعظم مما يولون أولادهم، ومن المعلوم أنهم ما كانوا يكلون ذلك لمماليكهم وخدمهم بل يقومون على تربية هذا الفرس الصغير بأنفسهم فيعتنون به، فهنا ذكر لهم أمراً يعرفونه يقرب لهم هذا المعنى من اعتناء الله بهذه الصدقة ولو كانت قليلة قال: حتى تكون مثل الجبل، وهذا على ظاهره، يعني بعض أهل العلم قال: إن المراد به الثواب، أن يكون الثواب مثل الجبل، وبعضهم قال: إن المراد بذلك هو نفس الصدقة، ولا مانع من هذا المعنى، فيكون ذلك عظيماً عند الله ، فإذا كان الإنسان تصدق بريال مثلاً فإذا قدم على الله فإنه لا يجد صدقته كما هي، وإنما يجد ذلك أعظم وأكبر أضعافاً مضاعفة، إذا تصدق هذا الإنسان بقطعة من اللحم أو الخبز أو نحو هذا فإنه لا يجدها كما هي عند الله -تبارك وتعالى، إذا تصدق بثوب أو بساعة فإنه يجد ذلك عظيماً، هذه تنمو عند الله الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وهذا الحديث يوضح هذا، التمرة تكون بقدر أو قيمة التمرة تكون بقدر الجبل، ولو تصدق الإنسان بشيء أعظم من التمرة تصدق بدار، تصدق بأرض، تصدق بمائة ألف، بمليون، تصدق بمقدار كبير من التمر فكيف ذلك يكون عند الله ؟، أعظم من الجبل، وهذا من لطف الله بعباده ورحمته بهم، ولهذا يقول أهل العلم: "ويل لمن غلبت آحاده عشراته"، يعني: السيئة بواحدة، ما تكون مثل الجبل، يعني: ما تعظم وتكبر وتتضاعف مع الأيام والليالي وإلا فلو كان الأمر كذلك لهلك الناس، لو كانت السيئات تتنامى وتعظم في أوزارها وعقوباتها وما يترتب عليها لما نجا أحد، ولكنها تبقى كما هي، أما الحسنة فتعظم، الصدقة تعظم حتى تكون مثل الجبل، فويل لمن غلبت آحاده -السيئة يعني بواحدة- عشراته، يعني: هذا الذي الآحاد تغلب عنده العشرات معناه أن الحسنات عنده قليلة ما عنده حسنات تذكر، فسيئاته لما وضعت في الميزان زادت على الحسنات، مع أن الحسنات بهذه المثابة من المضاعفة، فدل على أنه مفلس ليس له حسنات تذكر، وذنوبه ومعاصيه كثيرة جدًّا، والله -تبارك وتعالى- حينما يبين لنا ذلك على لسان رسوله ﷺ فإنه يرغبنا بالصدقة فنعلم أنها مخلوفة، وأن المسألة هي ادخار عند الله ، ولذلك سمَّى ذلك تجارة وسماه قرضاً مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، وسماه بيعاً وسماه شراء، وسمَّى من لم يفلح في عمله مع الله وتجارته سماه خاسراً، وسمى ذلك غبناً، وكل هذه الألفاظ تستعمل في التجارات، فالعبد إذا سمع مثل هذه الأمور اطمأنت نفسه وارتاضت وصار ما يعطيه ويتصدق به أوثق في نفسه مما في يده؛ لأن ذلك ذهب إلى داره الأخرى وهو سينتقل إليها ولا محالة، أرأيتم أحداً بقي؟.
كل الناس يموتون، وفي كل يوم نودع أناساً، والله أعلم من سيموت بعد هذه اللحظة في هذه الليلة، وفي الغد وبعد الغد، إنما هي مسألة وقت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فينتقل الإنسان إلى داره الأخرى، فينبغي أن ينورها، وأن يوسعها وأن يبرد مضاجعه بعمل يقدمه لآخرته.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب لقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:276-277]، برقم (1410).
- رواه الترمذي، أبواب الزكاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الصدقة، برقم (662)، وأحمد في المسند، برقم (7634)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1902).