الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكما هي العادة أن نتبع أبواب هذا الكتاب المبارك ما ورد عن السلف من الأخبار فيما يتصل بالباب، ففي باب "الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى" أرسل عمر بن الخطاب إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت: "غفر الله لعمر كان أقوى على قسم هذا.."، يعني أنه عطاء كثير، كان أقوى على قسم هذا يعني على المحتاجين والفقراء، أقوى مني، "قالوا: كله لك، قالت: سبحان الله واستترت منه بثوب، وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً وأخذت تفرقة في رحمها وأيتامها"، يعني أخذت كما يقال: قدراً قليلاً، وفرقته في قرابتها وأيتامها وأعطت من جاء به ما بقي فوجدوه خمسة وثمانين درهماً، "ثم رفعت يدها إلى السماء وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا"[1].
ويقول ابن الزبير: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة، وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء فكانت لا تدخر شيئًا لغد"[2].
ويقول الأصمعي: "أُرْتِج على عبد الله بن عامر المنبر يوم أضحى بالبصرة..."، أُرْتِج يعني حصل له استغلاق في الكلام، أراد أن يخطب فلم يستطع أن يتكلم، حُبس عنه الكلام، وهذا قد يقع للفقهاء، قد يقع للخطباء من الفصحاء البلغاء، فالشاهد أنه مكث ساعة ثم قال: "و الله لا أجمع عليكم عِيًّا ولؤمًا"، عِيًّا يعني العجز في الكلام، "من أخذ شاة من السوق فثمنها عليّ"[3]، طبعاً هو كان الأمير.
وجاء أيضاً عن سليمان بن الربيعة الغَنوي أنه حج زمن معاوية في عصبة من القراء، يقول: "فحُدثنا أن عبد الله بن عمر في أسفل مكة فعدنا إليه، فإذ نحن بثقل عظيم يرتحلون ثلاثمائة راحلة"، يعني جماعة عظيمة منها مائة راحلة ومائتا زاملة، يعني التي تحمل المتاع، "وكنا نتحدث أنه أشد الناس تواضعاً، فقلنا: ما هذا؟ قالوا: لإخوانه، يحملهم عليها، ولمن ينزل عليها"، يعني هذه جميعاً، "فعجبنا فقالوا: إنه رجل غنيٌّ يقول: فدلونا عليه أنه في المسجد الحرام فأتيناه فإذا هو رجل قصير، أرمص، بين بردين وعمامة قد علّق نعليه في شماله"[4]، يعني لتواضعه.
وكان قيس بن سعد، يعني: قيس بن سعد بن عبادة وهو من أجواد الناس يستدين ويطعم، فقال أبو بكر وعمر -ا: "إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه، خرجوا معه في غزوة فكان يفعل ذلك لما أصابهم شيء من الحاجة في تلك الغزوة، يعني: كان يقترض ممن معه، بعض التجار وبعض الموسرين ويطعم الناس في الغزو، فقالوا للناس: لا تقرضوه؛ لأنه ليس له مال، وإنما على مال أبيه، فقام سعد يعني الأب سعد بن عبادة لما رجعوا وأُخبر قضى دينه وشجعه على ذلك"، الشاهد فقام سعد عند النبي ﷺ وقال: "من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطاب يُبخِّلان عليّ ابني"[5]، يعني يقولان له: لا تنفق، فإن هذا المال ليس لك.
وقيل: "وقفتْ على قيس عجوزٌ فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية، قلة الجرذان؛ لأنه ليس في البيت شيء، ما أحسن هذه الكناية املئوا بيتها خبزاً ولحماً، وسمنًا وتمرا"[6].
وبعث معاوية مرة إلى عائشة -ا- بمائة ألف، فما أمست حتى فرقتها[7].
وعن عطاء مولى ابن سباع قال: "أقرضت ابن عمر ألفي درهم، فوافانيها بزائد مائتي درهم"[8]، يعني الوفاء أكثر.
وعن نافع: أُتي ابن عمر ببضعة وعشرين ألفاً، فما قام حتى أعطاها[9].
وجاء عن أيوب بن وائل قال: "أُتي ابن عمر بعشرة آلاف، ففرقها وأصبح يطلب لراحلته علفاً بدرهم نسيئة"[10].
وعن نافع قال: "كان ابن عمر ليفرق في المجلس ثلاثين ألفًا، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مِزعة لحم"[11].
وجاء عن نافع قال: "ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد"[12].
وعن نافع قال: "بعث معاوية إلى ابن عمر بمائة ألف، فما حال عليه الحول وعنده منها شيء"[13].
وعن أبي جعفر القارئ قال: "خرجت مع ابن عمر من مكة وكان له جفنة من ثريد يجتمع عليها بنوه وأصحابه وكل من جاء حتى يأكل بعضهم قائماً، ومعه بعير له، عليه مزادتان فيهما نبيذ وماء، فكان لكل رجل قدح من سويق بذلك النبيذ"[14]، يعني: يعطيه قدحًا من سويق مع النبيذ، النبيذ مثل العصير الآن.
وكان الضحاك بن قيس جوادًا، لبس برداً يساوي ثلاثمائة دينار فساومه رجل به فوهبه له، وقال: "شُحٌّ بالمرء أن يبيع عِطافه"[15]، يعني مثل هذا يوهب ولا يباع مهما كان ثمنه، هذا الذي قصد.
وقال ابن سيرين: "تزوج الحسن بن علي امرأة فأرسل إليها بمائة جارية، مع كل جارية ألف درهم، وكان يعطي الرجل الواحد مائة ألف"[16]، فأين الذي يحرص ألا يتزوج إلا موظفة أو معلمة من أجل أن يأخذ ما بيدها ثم يساومها على هذا، فإن أبت لوح لها بالطلاق، فإن أبت بدا يقتر عليها بالنفقة، ولربما حبسها في البيت لا يصل إليها شيء حتى تعطيه، وإلا ساءت العشرة بينهما، وآل الأمر غالباً إلى الطلاق.
يقول سعيد بن عبد العزيز: "سمع الحسن بن علي رجلا إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف فبعث بها إليه، وخطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بعد عمر، تزوجها عمر فلما توفي عمر بعد ذلك خطبها سعيد بن العاص وبعث إليها بمائة ألف، فدخل عليها أخوها الحسين، وقال: لا تزوجيه، فقال الحسن: أنا أزوجه، واتّعدوا لذلك، حددوا موعداً فحضروا فقال سعيد: وأين أبو عبد الله -يعني الحسين-؟ فقال الحسن: سأكفيك، قال: فلعل أبا عبد الله كره هذا؟ يعني الزواج، قال: نعم، قال: لا أدخل في شيء يكرهه ورجع ولم يأخذ من المال شيئًا"[17]، ما أخذ من المال شيئًا.
وقيل: إن أعرابيًّا قصد مروان فقال: ما عندنا شيء، فعليك بعبد الله بن جعفر، مروان آنذاك كان أميراً على المدينة فقال للسائل: ما عندنا شيء اذهب إلى عبد الله بن جعفر، عبد الله بن جعفر أحد الناس لكنه من فضلائهم وأجوادهم فأتى الأعرابي عبد الله فأنشأ الأعرابي يقول:
أبو جعفرٍ من أهل بيت نبوةٍ | صِلاتُهم للمسلمين طهورُ |
أبا جعفرٍ ضنّ الأميرُ بمالِهِ | وأنت على ما في يديك أميرُ |
يعني ضن مروان، وأنت تأمر على ما في يدك لا يحكمك أحد.
أبو جعفرٍ يا ابن الشهيد... | ......... |
يعني هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
أبا جعفرٍ يا ابن الشهيد الذي له | جناحان في أعلى الجنانِ يطيرُ |
أبا جعفرٍ ما مثلُك اليوم أرتجي | فلا تتركَنِّي بالفلاة أدورُ |
فقال: "يا أعرابي سار الثّقَلُ، فعليك بالراحلة بما عليها -يقول: ما عندنا، ذهبت الأموال، لكن عليك بالراحلة بما عليها، يعني راحلته هو، عليها متاعه، وإياك أن تُخدع عن السيف؛ -لأن سيفه فيها- فإني أخذته بألف دينار"[18]، أعرابي ما يعرف فقد يبيع هذا السيف بعشرة دراهم، فيقول: إياك أن تُخدع عن السيف فإني أخذته بألف دينار، أعطاه الرحالة بما فيها السيف الذي هذا ثمنه.
ويروى أن شاعراً جاء إلى عبد الله بن جعفر فأنشده.
رأيت أبا جعفر في المنام | ........ |
هذه رؤيا في النوم.
رأيتُ أبا جعفر في المنام | كساني من الخَزِّ دُرّاعهْ |
من الخَزِّ، والخَزِّ هو الحرير الغليظ.
شكوتُ إلى صاحبي أمرَها | فقال: تُؤتى بها الساعهْ |
سيكسوها الماجدُ الجعفريُّ | ومَن كفُّهُ الدهر نفّاعَهْ |
ومن قال للجود لا تَعْدُني | فقال له: السمع والطاعهْ |
لا تَعْدُني يعني لا تتعداني، فالجود قال له: سمعاً وطاعة ما أتعداك، فقال عبد الله لغلامه: أعطه الجبة الخز، ثم قال له: ويحك! كيف لم ترَ جبتي الوشْي؟، هو عنده جبة خز، وهذا يقول: أنا رأيت في النوم أنك أعطيتني إياها، لكن كيف ما رأيت الأحسن منها التي هي الوشْي، اشتريتها بثلاثمائة دينار منسوجة بالذهب، أين أنت عنها في النوم لماذا ما رأيت إلا الخز؟ فقال: أنام فلعلي أراها، فضحك عبد الله وقال: ادفعوها إليه[19].
وعن العمري أن ابن جعفر أسلف الزبير ألفَ ألفٍ، فلما توفي الزبير قال ابن الزبير -يعني عبد الله بن الزبير- لابن جعفر: إني وجدت في كتب الزبير أن له عليك ألف ألف، قال: هو صادق، ثم لقيه بعدُ فقال: يا أبا جعفر، وهِمتُ، المال لك عليه، فقال: فهو له، قال: لا أريد ذلك[20].
يكفي هذا، وفي الليالي القادمة -إن شاء الله- أكمل ما اخترته من هذه النماذج، فنحن بحاجة إلى مثل هذا؛ لأن الإنسان يعيش في بيئة لربما لو تصرف بعض التصرفات في البذل أو الجود أو الإحسان فربما يتهم في عقله، وقد سمعت بعض من يقول بعد أن تحدثت طويلاً في أشياء تشبه هذا ونماذج من هذا القبيل وأبلغ من هذا فقال أحد أصحاب الثراء بعدما سمع ذلك أيامًا متطاولة قال: يا أبا عبد الرحمن هؤلاء مجانين جاءهم المال من غير تعب، فالإنسان عندما يعيش في بيئة على خلاف ذلك يتصور أن مثل هذه التصرفات أنها نقص في العقل، الناس لو رأوا الإيثار الذي ذكره الله وأثنى عليه بما يتصل بثناء الأنصار : يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْوَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا [الحشر:9] يعني: مما أوتيه المهاجرون.
يأتي الرجل من المهاجرين ويختصمون فيقرع النبي ﷺ بينهم قرعة يكون عند مَن، فإذا صار في سهمه يقول له: أقاسمك، عندي زوجتان، فاختر إحداهما فأطلّقها، وأقلُّ ما أملك نعلاي خذ واحدة ويخلعها ويعطيه إياها، يتقاسمون الأرض والمزارع وكل شيء، فلو فعل هذا أحد من الناس اليوم لاتهمه الناس في عقله يقال: يحجر عليه، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء ط الحديث (3/ 473).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (69/ 19)، وسير أعلام النبلاء (3/ 523).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر(29/ 254)، وسير أعلام النبلاء (3/ 19).
- حلية الأولياء (1/ 291).
- أسد الغابة ط العلمية (4/ 404)، وسير أعلام النبلاء (3/ 106).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (49/ 415)، وسير أعلام النبلاء (3/ 106).
- انظر: حلية الأولياء (2/ 47)، وتاريخ دمشق (27/ 411)، وسير أعلام النبلاء (3/ 458).
- سير أعلام النبلاء (4/ 310).
- المصدر السابق (4/ 311).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 296)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (3/ 1710)، وسير أعلام النبلاء (4/ 311).
- انظر: معرفة الصحابة لأبي نعيم (3/ 1710)، وسير أعلام النبلاء (4/ 311).
- انظر: الطبقات الكبرى (4/ 111)، وسير أعلام النبلاء (4/ 323).
- سير أعلام النبلاء (4/ 324).
- انظر: حلية الأولياء (2/ 38)، وتاريخ دمشق (13/ 249)، وتهذيب الكمال (6/ 237)، وسير أعلام النبلاء (4/ 332).
- انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 416)، وسير أعلام النبلاء (4/ 446).
- انظر: تاريخ دمشق (27/ 270)، وسير أعلام النبلاء (3/ 459).
- سير أعلام النبلاء (4/ 454).
- المصدر السابق (4/ 455)