الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد في باب "الكرم والجود والإنفاق" ما جاء عن يحيى البرمكي قال: "إذا أقبلت الدنيا عليك فأعطِ فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأعطِ فإنها لا تبقى"، وكان في خزائنه دنانير زنة الواحد مائة مثقال كان يرمي بها إلى أسطِحة الناس[1]، وهذا في عهد هارون الرشيد يعني في القرن الثاني الهجري، وكانت صورته على الدنانير، وهذه فائدة تدل على أن وضع الصور على العملة أنه شيء قديم، ليس بالجديد، حتى قال الشاعر:
وأصفرَ مِن ضربِ دارِ الملوك | يلوح على وجهه جعفرُ |
يزيد على مائةٍ واحدًا | متى يُعطَه معسرٌ يوسرُ[2] |
يلوح على وجهه الأصفر يعني الذهب، يلوح على وجه جعفر البرمكي، وإنما ذكرناه من أجل أنه رجل كان قد عرف بالبذل والكرم وإن لم يكن محمود السيرة في أمور أخرى، فحصل لهم ما حصل من نكبة البرامكة المعروفة، ومن أراد فليراجع السير مثلاً "سير أعلام النبلاء"، يجد في ذلك عبرة عظيمة، كيف تتقلب الدنيا بأهلها.
ويقول الهيثم بن خارجة: "ما رأيت رجلاً آدب من المعافى بن عمران، وبلغنا أن المعافى كان أحد الأسخياء الموصوفين، أفنى ماله الجود، كان إذا جاءه مَغَلُّه أرسل منه إلى أصحابه ما يكفيهم سنة"[3]، المَغَلّ يعني ما يصل إليه من تجارة أو نحو ذلك، وكانوا أربعة وثلاثين رجلاً، يعني أصحابه.
وأتى رجل إلى الفضل البرمكي يطلب منه المساعدة فقال: ما حاجتك؟ قال: رثاثة ملبسي تخبرك، وأخبره قال: أنا أمتّ إليك بصلة فيها قرب، فقال: فبم تمتّ إليّ؟ قال: إني في سنك ومن جيرانك واسمي كاسمك، قال: وما علمك بالولادة؟ قال: حكت لي أمي أنها ولدتني صبيحة مولدك وقيل لها: ولد الليلة ليحيى بن خالد ابن سماه الفضل قال: فسمتني أمي الفضيل إكبارًا لاسمك، فتبسم الفضل وأمر له بخمسة وأربعين ألفاً، ومركوباً ثم استعمله ديواناً[4].
ويقول الحسن بن شاذان عنه: "صار إلىّ من السلطان ستمائة ألف درهم ما وجبت عليّ زكاة فيها"[5].
ويقول عمر: ذكروا عن الشافعي أنه أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام، وقال: أفلست من دهري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري حتى حلي بنتي وزوجتي ولم أرهن قط[6].
وأخذ رجل بركاب الشافعي -رحمه الله- فقال الشافعي لصاحبه وتلميذه الربيع: "أعطه أربعة دنانير"[7].
وكان الشافعي مارًّا بالحذّائين -يعني: الذين يصنعون أو يبيعون الأحذية- فسقط سوطه، فوثب غلام ومسح بكمه وناوله، فأعطاه سبعة دنانير[8].
وتزوج الربيع صاحب الشافعي هذا فسأله الشافعي كم أصدقت، كم أعطيتها من المهر؟ فقال: "ثلاثين ديناراً، عجلت منها ستة" يقول: "فأعطاني أربعة وعشرين دينارًا"[9].
وكان بالشافعي -رحمه الله- بواسير، وكانت له لبدة محشوة يجلس عليها فإذا ركب أخذ الربيع تلك اللبدة ومشى خلفه، فجاء إنسان وأعطاه ورقة، يقول فيها: إنه بقّال يقول: رأس مالي درهم وقد تزوجت فأعني، فقال: يا ربيع أعطه ثلاثين دينارًا، يقول: فقلت: أصلحك الله، إن هذا يكفيه عشرة دراهم، قال: ويحك وما يصنع بالثلاثين؟"[10]، يعني بالثلاثين ديناراً أفي كذا أم في كذا؟، يعد ما يصنع في جهازه قال: أعطه، يعني في الزواج التأثيث والمهر إلى غير ذلك.
وجاء عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "خرج هرثمة فأقرني سلام أمير المؤمنين هارون يعني هارون الرشيد وقال: "قد أمر لك بخمسة آلاف دينار، فحمل إليه المال، فدعا بحجام فأخذ شعره، والحجام في ذلك الوقت يقال للحجام الذي يحجم الناس يستخرج الدم، والحلاق -أيضًا- يقال له: حجام، فدعا بحجام فأخذ شعره فأعطاه خمسين دينارًا، ثم أخذ رقاعًا فصرّ صررًا وفرقها في القرشيين الذين هم بالحضرة ومن بمكة حتى ما رجع إلى بيته إلا بأقل من مائة دينار[11].
وقدم -رحمه الله- أعني الشافعي- صنعاء فضربت له خيمة، ومعه عشرة آلاف دينار، فجاء قوم فسألوه، فما قُلعت الخيمة ومعه منها شيء[12]، فقد كان -رحمه الله- أسخى الناس بما يجد[13].
يقول ابن عبد الحكم: كان يمر بنا فإن وجدني وإلا قال: قولوا لمحمد.. يعني يمر على بيته فإن وجده وإلا قال: قولوا لمحمد يعني ابن عبد الحكم إذا جاء يأتي المنزل فإني لا أتغدى حتى يجيء.
وقلما كان يمسك الشيء من سماحته، وكان من أسمح الناس، يشتري الجارية التي تجيد الطبخ وعمل الحلوى، ويشترط عليها ألا يقربها يعني ألا يطأها؛ لأنه كان عليلا لا يمكنه أن يقرب النساء لباسور كان إذ ذاك، وكان يقول لأصحابه: اشتهوا ما أردتم، يعني يشتري لهم هذه الجارية التي تحسن الطبخ وصناعة الحلوى يقول: "اشتهوا ما أردتم فتصنع لهم ذلك"[14].
وقال المأمون لمحمد بن عباد: أردت أن أولّيك فمنعني إسرافك، قال: منْعُ الجود سوء ظن بالمعبود، هذا يقوله محمد بن عباد: منْعُ الجود سوء ظن بالمعبود، فقال: لو شئت أبقيت على نفسك، فإن ما تنفقه ما أبعد رجوعه إليك، قال: من له مولى غني لم يفتقر، فقال المأمون: "من أراد أن يكرمني فليكرم ضيفي محمداً"، كأنه استحسن ما قال، فجاءته الأموال فما ادخر منها درهمًا، وقال: "الكريم لا تحنكه التجارب"[15]، يعني لا يتعظ بنفقة أنفقها من قبل فأفلس إذا كان ذلك في وجوه البر.
ومن كلام أحمد بن خالد يقول: "من لم يقدر على نفسه بالبذل لم يقدر على عدوه بالقتل"[16]، لأن النفس أغلى على صاحبها من المال، فإذا لم يقوَ على نفسه بالبذل -بذل المال- فإنه سيكون شحيحًا بنفسه فلا يستطيع أن يقدم على عدوه، ولهذا يقول الذهبي تعليقاً عليه في "سير أعلام النبلاء" يقول: "الشجاعة والسخاء أخوان فمن لم يجد بماله فلن يجود بنفسه"[17].
وكان الحسين بن حفص الهمداني وجْهَ الناس وزينتهم، وكان دخله في كل سنة مائة ألف فما وجبت عليه زكاة قط، وكانت صِلاته وجوائزه دارّة على المحدّثين وأهل العلم والفضل مثل أبي مسعود وعمر بن علي الفلاس، وكان من المختصين بسفيان الثوري، وقيل: إن سفيان الثوري -رحمه الله- حج على مركبه[18].
وكان الحسن بن سهل فرداً في الجود أراد أن يكتب لسقّاء مرة ألف درهم فسبقته يده فكتب ألف ألف درهم فروجع في ذلك، قيل: حصل خطأ فقال: "والله لا أرجع عن شيء كتبته يدي"[19]، فصولح السقّاء على جملة، يعني المبلغ غير عادي.
وباع سحنون -وهو من أئمة المالكية في بلاد المغرب- زيتونًا له بثمانمائة فدفعها إلى أبي داود العطار، وقال: "فرقها عني صدقة"[20].
وبقيت بقايا، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
- سير أعلام النبلاء (7/ 509).
- المصدر السابق (7/ 510).
- المصدر السابق (7/ 523).
- المصدر السابق (7/ 529).
- المصدر السابق (7/ 164).
- المصدر السابق (7/ 249).
- حلية الأولياء (9/ 130)، وسير أعلام النبلاء (8/ 249).
- سير أعلام النبلاء (8/ 249).
- حلية الأولياء (9/ 132)، وسير أعلام النبلاء (8/ 249).
- سير أعلام النبلاء (8/ 249).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (8/ 250).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (8/ 330).
- المصدر السابق (8/ 366).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (8/ 421).
- المصدر السابق (11/ 172).
- المصدر السابق (9/ 464).